احتفاء بطعم الاستفهام
ما عادت أخبار السياسة اللبنانية تفاجئنا، أقلّه بعد حالة الشلل التي سيطرت على النظام اللبناني منذ 7 أكتوبر. لذلك، ربّما، لم نصدّق الخبر في البداية، قبل أن نبدأ بالشكّ مع تسارع الأخبار العاجلة التي تؤكّده. وإذا كانت الكلمات قد تخطئ، فإنّ صورة الرجل وهو ينزل على الدرج، محاطاً برجال الأمن، وجاكيته تخبّئ يديه المكبّلتَيْن، قطعت أيّ إمكانيّة للشكّ: رياض سلامة موقوفاً.
قطعنا دائرة الشك الأولى عن حقيقة الخبر لندخل في الدائرة الثانية: لماذا أُوقِف رياض سلامة؟ على مدار يومين، جاءت عناوين التقارير والمقالات كلها مع علامة استفهام، وكأنّ الإعلام اللبناني، للمرّة الأولى ربّما، بدأ يشعر بخطورة الأخبار الكاذبة وتحاليل المصادر المجهولة. هكذا، كان من الطبيعي أن يرافق الحدثَ احتفاءٌ مصحوبٌ بقائمة من الأسئلة المُحقّة: هل سقط الرجل فعلاً؟ هل ثمّة مسرحيّة جديدة يجري الإعداد لها، كما جرى في العديد من المحطّات الحسّاسة التي مرّ بها الملف؟ هل هناك تسوية أفضت إلى الإيقاع بحامل أسرار المنظومة، كما يوصف في الإعلام؟
قضاءٌ للإفلات من العدالة
لم تكن التجارب السابقة مع القضاء اللبناني في قضية حاكم مصرف لبنان مشجّعة، بل ربّما عمّقت الشكّ بما يحدث. فقد جاء الخبر بعد أربع سنوات من الملاحقات القضائيّة في لبنان والخارج، مع ما رافقها من استماتة سياسيّة للدفاع عنه وتغطيته، وإبقائه في منصبه حتّى آخر لحظة من ولايته.
ذات يوم، شمت كثيرون بخبر مصادرة جوازات سفر سلامة لمنعه من السفر، من قبل النيابة العامّة التمييزيّة في بيروت. ثم تبيّن أنّ تلك الخطوة بالتحديد جاءت استباقاً لمواعيد جلسات التحقيق معه في ألمانيا، وأن مصادرة جوازات السفر أعطته ذريعة يمكن استخدامها لعدم الحضور هناك، وتفادي سيناريو توقيفه. في وقتٍ لاحق، استخدم سلامة الذريعة نفسها لإسقاط مذكرة التوقيف الدوليّة الصادرة بحقّه في ألمانيا، على أساس أنّه كان مضطرّاً للتغيّب عن الجلسات.
في وقتٍ آخر، أُحيل الملف من النيابة العامّة التمييزيّة إلى النيابة العامّة الاستئنافيّة في بيروت، وطُلب الادعاء على سلامة. لكنّ ذلك كان مجرّد تمهيد لسلسلة طويلة من الألغام التي عرقلت التحقيقات في الملف: من امتناع النائب العام الاستئنافي في بيروت زياد أبو حيدر عن الادعاء، إلى تنحّيه، وصولاً إلى تجميد الملف تحت وطأة طلبات مخاصمة الدولة التي تقدّم بها محامو سلامة. في كل ما جرى، كانت هناك أسباب كثيرة للتوجّس.
لذلك، دخلنا في الدائرة الثالثة من الشكّ، أي الشكّ بمغزى التوقيف، في ظلّ هذه السرية المطلقة غير المعتادة حول هذا الملف. فكل التقارير الإعلاميّة المتداولة، والتي تتناول ارتكابات الرجل واتصالها بتوقيفه، لا تتجاوز حدود الترجيحات أو التكهّنات. لم يخرج من قصر العدل حرف واحد يدلّ على التهم المتّصلة بعمليّة التوقيف. من حيث المبدأ، يُفترض أن يكون المسار طبيعياً، وفقاً لأصول مبدأ سريّة التحقيق. غير أن تجربتنا مع ملف رياض سلامة بالذات، تدعونا للحذر- والتساؤل- إزاء هذا الاحترام المُستجدّ لسريّة التحقيق. ففي جلسات التحقيق السابقة، كان يُسرّب للإعلام تفاصيل الأسئلة والأجوبة، والابتسامات ولحظات الصمت، بل ونوعيّة المشروب والسيجار الذي دخّنه سلامة خلال الاستجواب.
هل ثمّة حرص واحترام مُستجدّ لأمور لطالما كانت هامشيّة في الحياة القضائيّة، مثل سريّة التحقيقات؟ أم أنّ هناك محاولة لدسّ لغم في الملف القضائي، مغلَّفاً بخبر يبدو في ظاهره إيجابياً، مثل توقيف رياض سلامة؟ هل تمّ توقيف رياض على خلفيّة ملف دسم، من الملفّات المتصلة بالتزوير والاختلاسات الكبرى في مصرف لبنان؟ أمّ أن المطلوب توقيفه الآن لسبب ما، وفي ملف تفصيليّ يمكن استيعابه قضائياً؟
حاكم مصالح النظام
إذا ما تجاوزنا الشؤون القضائية، يملك اللبنانيّون أسباباً أخرى للتوجّس من أبعاد ومآلات هذا التوقيف. فنحن نتحدّث هنا عن مفتاح أساسي في النظام المالي، من الذين توسّعت شراكاتهم مع مختلف أقطاب الحياة السياسيّة اللبنانيّة، من ملفّات الدعم، إلى الهندسات الماليّة، ومؤامرات إسقاط خطط الإصلاح المالي…هناك بحرٌ من الأسرار التي يحتفظ بها هذا الرجل. وفي تلك الأسرار ما يدفع أصحاب النفوذ المحليّين للامتناع عن تسليمه إلى أي قضاء أجنبي، ولو عبر تسويات أو مسرحيّات محليّة، بالتنسيق مع سلامة نفسه. هكذا ندخل في الدائرة الرابعة للشكّ، المتعلقة بالمضمون السياسي لهذا التوقيف.
على هامش الحدث، ثمّة مساحة للتكهنات والتحليلات السياسيّة: فنحن على مسافة قصيرة من استحقاق النظر بتصنيف لبنان على لوائح مجموعة العمل المالي، مع ما يعنيه ذلك من احتمال إدراج البلاد على اللائحة الرماديّة. وأبرز أوجه القصور التي أشارت إليها المجموعة، تقاعس القضاء عن ملاحقة الجرائم الماليّة، وفي طليعتها ملف سلامة بالذات. ستبقى علاقة الخطوة بهذا الاستحقاق، محل تكهّن وتحليل، لا أكثر.
مع ذلك، يمكن تحديد مجموعة من المؤشّرات التي يستطيع اللبنانيون الركون إليها، خلال الأيّام أو الأسابيع المقبلة، لتقييم جديّة التحرّك القضائي أو نطاقه ومفاعيله. وعلى وجه الخصوص، يمكن ترقّب حركة التوقيفات والاستدعاءات القضائيّة، للبحث عن إمكانيّة شمولها كبار المتورّطين والشركاء في ملفّات الاختلاس والتزوير وتبييض الأموال. سيُظهِر هذا المؤشّر نوعيّة الملفّات التي تم توقيف سلامة على أساسها، ونطاق التحقيقات القائمة اليوم.
لكنّ الصورة تبقى مهمة
دوائر من الشكّ تُحيط بصورة رياض سلامة مكبّلاً. لماذا أوقِف وعلى خلفية أي ملف؟ هل هناك ملاحقة فعلية أم هي مسرحية من أجل الإفلات من قضاء أجنبي أو ضغوط غربية؟ كيف يمكن لنظام دافع عن حاكمه على مدار العقود أن يتخلى عنه من أجل احترام مسار قضائي أو دعوة قضائية؟
على الأرجح، ستبدأ الأجوبة بالظهور في الأيام المقبلة، وستتّضح معالم «المؤامرة» الجديدة. لكنّ هذا لن يلغي أهمية ما حدث، أهميّة صورة لن تزول من الذاكرة مهما تلاعب سلامة وحلفاؤه في القضاء والسياسة بالعدالة. فأن يضطرّ سلامة إلى دخول السجن لبضعة أيام من أجل التفلّت من قضية أكبر هو نصر لكل من طالب بالعدالة بعد الانهيار. أصبحنا بعيدين كل البعد عن صورة رياض سلامة كالحاكم الأقوى لمصرف مركزي، وباتت صورته كرجل مكبل الأيدي ومحاط برجال الأمن.
هذه الصورة مهمّة، مهما سيحصل في الأيام المقبلة.
الصورة مهمّة لا لإدانة سلامة وحده، بل لإدانة كلّ القادة السياسيّين والروحيّين الذين تواطأوا على حمايته، أو تشاركوا وإيّاه في صناعة الانهيار الماليّ في لبنان. فأيّاً يكن الملفّ الذي يُحقَّق مع سلامة فيه اليوم، فإنّ اختلاساته الشخصيّة من أموال مصرف لبنان لا تلخّص حكاية الانهيار. تلك الحكاية التي لا تقتصر على اختلاسات رجل واحد، بل تمتدّ إلى نهب منظّم لودائع تفوق قيمتها المئة مليار دولار.