تعليق رياض سلامة
سامر فرنجية

حاكم مصرف لبنان / فارّ من العدالة

17 أيار 2023

رياض سلامة مطلوب للعدالة

أصدرت قاضية فرنسية مذكرة توقيف دولية بحق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في ملفّ اختلاس أموال وتبييضها. أصدر المتّهم بيانًا هاجم فيه القضاء الفرنسي المنحاز، من موقعه كراعي الانهيار الحالي وعرّاب النظام الاقتصادي الذي قضى على مستقبل البلاد. ومع تغيّبه عن جلسة استجوابه في باريس، يكون سلامة قد التحق بنادي «الفارّون من العدالة» الذين يحكمون لبنان. 
الأمر ليس مستغربًا. 

يأتي هذا القرار بضعة أيام بعد نشر البنك الدولي تقريرًا ينتقد فيه سياسات المصرف المركزي، ولا سيّما منصّة «صيرفة»، كما يتّهمه بالعبث بالاستقرار النقدي. ويستكمل هذا التقرير مسلسل الانتقادات التي انهالت على المصرف المركزي والقطاع المصرفي بالسنوات الأخيرة من قبل عدد من المؤسسات الدولية، المعروفة تاريجيًا بمحافظتها اللفظية وتمسّكها إلى أقصى الحدود بسلامة المؤسسات المالية. فبات واضحًا، حتى لهذه المؤسسات، أن القطاع المالي اللبناني وعرّابه في حاكمية مصرف لبنان هما في صلب الأزمة، وربّما المسؤولين الأساسيين عن استمرارها وتعمّقها. ندرك أنّنا وصلنا إلى مستويات قصوى من العهر المالي عندما باتت بيانات البنك الدولي أو صندوق النقد تتقاطع، إن لم تكن تتطابق، مع تحاليل خصومها اليساريّين.

لكنّ المستغرب هو الوضعية التي يجد النظام اللبناني نفسه فيها، بعد قرار القاضية أود بوريزي. فأن يكون حاكم مصرف لبنان، أي نقطة التقاء النظام المالي اللبناني والنظام المالي العالمي من جهة، والضمانة القانونية لسلامة القطاع المصرفي من جهة أخرى، مطلوب من العدالة في ملفّ اختلاس أموال وتبييضها، فهذا يعني اتهامًا وعزلاً للقطاع بأكمله. عواقب قرار كهذا ضخمة، وقد تطال مسار التفاوض مع صندوق النقد وقدرة مصرف لبنان على فتح اعتمادات لتمويل الواردات وعلاقة المصارف اللبنانية مع المصارف الأجنبية وغيرها من الأمور. بكلام آخر، أن يكون حاكم مصرف لبنان مطلوباً من العدالة يُفقِد القطاع المصرفي ما تبقّى له من مصداقية، ليتحوّل هذا القطاع إلى ما يشبه دكاكين معفّنة، ليس لديها ما تقدّمه بعد اليوم من خدمات مالية، غير بهلوانات منصّة صيرفة.  


عزلتا النظام اللبناني

حاكم مصرف لبنان بات فارًّا من العدالة الدولية، رغم جميع محاولات القضاء اللبناني التلاعب بهذا التحقيق. يأتي هذا القرار على تقاطع مساريْن تصاعديّيْن من العزلة المالية والقانونية. 

  1. ماليًا، ومنذ بدء الأزمة، قرّر القيّمون على الوضع التضحية، ليس فقط بمستقبل المودعين ولكن بأسس النظام الاقتصادي بأكمله، لحماية مصالح بضعة مصرفيين وكبار المودعين. فأخرجوا القطاع المصرفي من النظام العالمي، من خلال التخلّف عن دفع اليوروبوند من دون التفاوض مع الدائنين ومن دون فرض سلسلة من التعاميم لمنع سحب أو تحويل الودائع، والتلاعب بقيمة تلك الودائع من خلال سعر الصرف، والتهرّب من إبرام اتفاقية مع صندوق النقد الدولي، وغيرها من الإجراءات التي  جعلت القطاع المصرفي «قطاعًا خارجًا عن القانون الدولي». عاد لبنان إلى اقتصاد «الكاش» وبات معزولًا عن الأسواق العالمية، بغية تأمين حماية بعض المصارف «الزومبي». 

  2. أمّا قانونيًا، فيتّجه لبنان نحو عزلة قضائية، بعدما أن اتّضح تواطؤ جزء كبير من الجسم القضائي مع مصالح السلطة. وتأتي محاولات بعض القضاة حماية سلامة من الملاحقة بعد تواطؤ بعضهم الآخر لتعطيل التحقيق بانفجار المرفأ، ومحاولات آخرين منع أي تدقيق مالي أو فتح لملفات الفساد والاختلاس. ويمكن قراءة القرار الفرنسي الأخير كاعتراف بفقدان دولي لأي ثقة بقدرة القضاء اللبناني على إتمام أي عملية محاسبة، ما يجعل عملية الإصلاح شبه مستحيلة.

أصبح لبنان خارج العالم. بعض مسؤوليه مطلوبون للعدالة لدورهم في انفجار المرفأ، وبعضهم الآخر مطلوب على التحقيق بقضايا فساد. حاكم المصرف المركزي لا يستطيع السفر. مصارفه غير قادرة على إتمام أبسط المعاملات الخارجية. المصرف المركزي قد يفقد قدرته على التواصل مع القطاع المالي. نظامه القضائي بات شبه مطلوب دوليًا. أزمة جوازات السفر الأخيرة لم تعد مستغربة، فهي مرحلة أخرى من عملية عزل لبنان عن لبنان، بغية حماية حفنة متضائلة من المستفيدين، لم يتبقَّ لهم إلّا سياسة العزلة لحماية مصالحهم واستمرارهم بالحكم. من الطبيعي بوضع كهذا أن يلجأ كارلوس غصن إلى لبنان للفرار من العدالة، كما من الطبيعي أن لا تحقق العدالة بقضية منصور لبكي إلّا من القضاء الفرنسي. 


التناقض الأخير للنظام اللبناني

قرار العزلة هذا قد يحمي القيّمين من الملاحقة، لكنّه يشكّل نهاية النظام الاقتصادي الذي أمّن سيطرتهم على مدار السنين. 

قام الاقتصاد اللبناني، لا سيّما بعد الحرب الأهلية، على نموذج من «الانفتاح التبعيّ» للخارج، جعله رهينة جدلية تصدير اليد العاملة مقابل استيراد الودائع، في دوامة متصاعدة جعلت كلفة إعادة إنتاج هذا النموذج باهظة لحد انهياره. لم يكن هذا الاقتصاد الريعي خطأ ارتكبه بعض السياسيين أو نتيجة فشل إداري، بل قام لتأمين مصالح طبقية ضيقة، جنت الثروات جراء السياسات المالية وما تلاها من تحوّلات ريعية بالاقتصاد. كان لهذا النظام شروط محدّدة وبسيطة: علاقة جيّدة مع أسواق العمل الأجنبية، ولا سيّما في الخليج، التي تستوعب فائض اليد العاملة، وتطابق النظام المالي اللبناني مع النظام العالمي وقوانينه، ومستوى معيّن من الاستقرار المالي الداخلي، أمنّته سياسة تثبيت العملة. 

يقضي قرار فرض عزلة على لبنان، والذي اتّبعته السلطة، على إمكانية إعادة إنتاج هذا النظام. فمن جهة، باتت إمكانية تصدير يد عاملة أصعب مع التدهور التدريجي بالمستويات التعليمية والصعوبات الإدارية التي تواجه السفر. ومن جهة أخرى، وهذا الأهم، بات مستحيلًا أن يعود لبنان إلى دوره المالي السابق، أي أن يجتذب الرساميل والتحويلات لكي يموّل اقتصاداً قائمًا على الاستيراد في ظل هذه الحالة من العزلة المالية والقانونية. فالثقة في القطاع المصرفي اللبناني، ومن ورائها في النظام اللبناني، ستتطلب زمنًا طويلًا لكي ننسى أن المصارف هي في آخر المطاف مجرّد «سرقة قانونية للأموال». 

بعدما ضحّت السلطة بمستقبل المقيمين في هذه البلاد، وبأبسط مكوّنات اقتصادهم ومجتمعهم، وبعدما سخّرت القانون والقضاء حمايةً لحفنة من النترات، وبعدما قضت على أحلام أجيال بأكملها، ها هي تضحّي اليوم بنظامها نفسه لكي تحمي حفنة من اللصوص قد لا ترقى حتى لمرتبة «طبقة». لم يعد فقط من الضروري حماية أنفسنا منهم، بل بات من الضروري حماية نظامهم منهم. 


سياسة الرهائن

يمكن فهم الهجوم الأخير على مؤسسات قانونية وإعلامية وعلى الجسم القضائي في سياق سياسة العزلة الممنهجة التي فرضتها السلطة على البلاد. فالسلطة اليوم، وبعد أن ضربت الحركة السياسة الداخلية، تخاف من أي ربط بين الداخل والخارج، إمّا من خلال الملفات القضائية أو تسليط الضوء الإعلامي على أفعال السلطة أو ربط بين الجرائم هنا والعدالة هناك. ما تخشاه السلطة اليوم هو حرب الزواريب القانونية هذه، والتي تخاض حاليًا في محاكم أجنبية. لذلك تحاول تحصين داخلها من خلال شيطنة وتخوين ما تبقى من مؤسسات قانونية وإعلامية بتهمة التمويل الخارجي، وهي تهمة أخذت تنتشر من الجناح الممانع للسلطة إلى أقاصي اليمين المصرفي. وفي التهمة دلالة عمّا تخاف منه السلطة، وهو الربط بين الداخل والخارج، أو ترجمة الاتهام الداخلي إلى عقاب خارجي، بعدما بات مستحيلًا ترجمته داخليًا.

في وجه سياسة العزلة هذه، علينا الاعتراف بأنّنا رهائن هذا النظام، لسنا مواطنين أو مقاومين أو مناضلين. مجرّد رهائن، يمكن للسلطة أن تتلاعب بهم كما تريد، حتى أن تغيّر توقيتهم الصيفي حسب رغباتها. خرجنا من عالم الحقوق والواجبات، نحن نعيش فقط في عالم رغبات حفنة من اللصوص الذين لم يبقَ لهم إلّا هذه البقعة من الأرض المعزولة ليعيشوا فوقها حلم جنون عظمتهم. ليس للرهائن الكثير ممّا يمكن أن يفعلوه. إمّا الرحيل إن استطاعوا، أو التخريب، على أمل أن ينهار الهيكل ومعه جنون عظمة حفنة اللصوص. 


 

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
5 تُهم ضدّ نتنياهو وغالانت 
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان
قتيل بصواريخ حزب الله على نهاريا