بعد السريّة المصرفيّة
أُقِرّ قانون رفع السريّة المصرفيّة في الهيئة العامّة لمجلس النوّاب، بالصيغة التي أقرّتها اللجان المشتركة، والتي تقترب كثيرًا من الصيغة الأساسيّة التي أحالتها الحكومة. لم يُقرّ وحسب، بل أُدخِلت عليه بعض التعديلات الإيجابيّة، بما وسّع من نطاق مفاعيله، مع نزع ما يمكن أن يعيق تطبيقه.
لا تكمن أهمية هذه الخطوة في وضع حجر الأساس للمسار الإصلاحي من خلال فتح المجال لمراقبة عمل المصارف وحسب، بل أيضًا في أنّها تأتي بعد حملة سياسية وإعلامية من لوبي المصارف لعرقلة ومن ثمّ تفخيخ موادّ القانون. وهذا ما يشير إلى تحوّل بموازين القوى الذي كان، على مدار السنوات الأخيرة، لصالح المصارف وخطط العرقلة.
يشكّل إقرار قانون السريّة المصرفية نصرًا مهمًّا لمسار الإصلاح المالي، ونكسة للوبي المصارف. لكنّ ما جرى، رغم أهميته، ليس إلّا پروفا لمعارك قادمة حول قانونَيْ «معالجة أوضاع المصارف» و«الانتظام المالي» اللذين يستكملان ماكينة الإصلاح المالي.
عدم تكرار خطأ قانون عام 2022
يمنح قانون رفع السريّة المصرفيّة مصرف لبنان ولجنة الرقابة على المصارف حقّ الاطلاع على الداتا المصرفيّة، مع تفاصيل العمليّات وسجلّات العملاء، بمفعول رجعي يصل لغاية عشر سنوات من تاريخ إقرار القانون.
يمثّل القانون الجديد قفزة نوعيّة مقارنةً بنطاق القانون السابق الذي تمّ إقراره للغاية نفسها عام 2022، والذي لم يعطِ هذه الجهات صلاحيّة الاستحصال على أسماء الزبائن أو تفاصيل العمليّات، كما لم ينصّ على أيّ مفعول رجعي يسمح بالاطلاع على داتا الفترة السابقة لإقرار القانون. وجاءت كل تلك الثغرات في قانون العام 2022 بعدما نجح اللوبي المصرفي في تفخيخه لتقتصر مفاعيله على إطلاع مصرف لبنان ولجنة الرقابة على الأرقام العامّة والشاملة في كل مصرف من دون الاطلاع على حسابات الزبائن.
حاول اللوبي المصرفي أن يعيد الكرّة هذه المرّة، وركّز جهوده على إزالة فكرة المفعول الرجعي من القانون الجديد، في محاولة لطمس ارتكابات الحقبة السابقة. وركّزت حجج الحملات الإعلاميّة التي شُنَّت ضدّ القانون على حجج واهية، مثل عدم دستوريّة التجريم بمفعول رجعي على عمليّات أو أعمال حصلت في الماضي. تجدر الإشارة إلى أنّ هذه الحجّة لا تستقيم مع فكرة القانون نفسه، الذي لا يستحدث أي عقوبات جديدة على أفعال سابقة، بل يضع آليّات لكشف ارتكابات هي بالأساس غير قانونيّة وفق التشريعات القائمة. كما حاول اللوبي الالتفاف على القانون، عبر حصر عمليّات كشف السريّة المصرفيّة بمسار إعادة هيكلة المصارف، من دون توسيع نطاقها لتشمل أعمال التدقيق والرقابة الروتينيّة.
فشلت كلّ هذه المحاولات، وجرى إقرار القانون بالصيغة الأولى التي أعدّتها الحكومة: مع المفعول الرجعي، ومع إعطاء مصرف لبنان ولجنة الرقابة هذه الصلاحيّة عند القيام بكل الأعمال التي يختصّون بها، بما فيها الرقابة والتدقيق. هذا مع العلم أن بعض النوّاب، كحال علي حسن خليل، حاولوا المناورة في اللحظات الأخيرة، عبر اقتراحات تعيد حصر تنفيذ القانون بعمليّة إعادة هيكلة المصارف. غير أنّ رئيس الحكومة نوّاف سلام أصرّ على الصيغة الأساسيّة المحالة من قبل حكومته، فكان أن انحازت الهيئة العامّة لصالح هذه الصيغة.
تعديلات إيجابيّة
لهلّ أهمّ ما جرى خلال جلسة الهيئة العامّة، هو إضافة بعض التعديلات التي حسّنت من الصيغة التي أقرّتها اللجان المشتركة سابقًا، وأهمها:
- أُعطِيَت شركات التدقيق- بناءً على تكليف مصرف لبنان ولجنة الرقابة- صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة، وهذا ما يتيح للمصرف واللجنة الاستعانة بهذا النوع من الشركات لمراقبة أعمال المصارف خلال عمليّة إعادة الهيكلة في المستقبل، وللتدقيق المحاسبي أو الجنائي عند وجود مخالفات أو شبهات في أي مصرف. وتجدر الإشارة إلى أنّ الحكومة كانت قد ضمّنت مشروع القانون هذه الفكرة، إلا أنّ اللجان المشتركة عدّلت المشروع وحذفتها، قبل أن تعيدها الهيئة العامّة للمجلس في الصيغة النهائيّة من القانون.
- تمّ ربط تنفيذ القانون بمراسيم تطبيقيّة تصدر عن مجلس الوزراء مجتمعاً، بدل حصر هذه الصلاحيّة بقرارات وزير الماليّة وحده. وبذلك حالت الصيغة النهائيّة للقانون دون عرقلة تنفيذه، في حال أدّى الضغط السياسي على وزير الماليّة إلى امتناعه عن إصدار هذه القرارات الضروريّة لتنفيذ القانون.
- أُعطِيَت شركات التدقيق- بناءً على تكليف مصرف لبنان ولجنة الرقابة- صلاحيّة رفع السريّة المصرفيّة، وهذا ما يتيح للمصرف واللجنة الاستعانة بهذا النوع من الشركات لمراقبة أعمال المصارف خلال عمليّة إعادة الهيكلة في المستقبل، وللتدقيق المحاسبي أو الجنائي عند وجود مخالفات أو شبهات في أي مصرف. وتجدر الإشارة إلى أنّ الحكومة كانت قد ضمّنت مشروع القانون هذه الفكرة، إلا أنّ اللجان المشتركة عدّلت المشروع وحذفتها، قبل أن تعيدها الهيئة العامّة للمجلس في الصيغة النهائيّة من القانون.
المعركة الكبرى المقبلة
تكمن أهمية قانون رفع السريّة المصرفيّة في المسار الإصلاحي في أنّه يتيح إمكانية التعامل مع الخسائر المصرفيّة وفقًا لتصنيف الودائع حسب مشروعيّتها ومصدرها، كما يسمح باستعادة الأرباح غير المألوفة التي حققتها المصارف في حقبة الهندسات الماليّة. وهذا بالضبط ما يفسّر نطاق المفعول الرجعي الذي يعود بالزمن إلى العام 2015، أي سنة بدء الهندسات الماليّة. وهذه المعالجات، يفترض أن تكون من اختصاص قانونَيْن ما زالا قيد الدراسة:
- قانون معالجة أوضاع المصارف، الذي يحدّد صلاحيّات لجنة الرقابة على المصارف والهيئة المصرفيّة العليا ويضمن استقلاليّتهما في إطار عمليّة إعادة هيكلة المصارف. كما يحدّد القانون أصول تصفية أو إصلاح وضع المصارف المتعثّرة، مع بنود تشمل استعادة الأرباح المحقّقة من قبل المصرفيين خلال الفترات السابقة. وهذا القانون جرت المصادقة عليه في الحكومة، بانتظار بدء مناقشته في اللجان النيابيّة خلال الأيّام المقبلة.
- قانون الانتظام المالي، أو ما بات يُعرف بقانون الفجوة الماليّة، الذي يفترض أن يحدّد كيفيّة توزيع الخسائر المرتبطة بالأزمة الحاليّة. وهنا سيتمّ تحديد الحدّ الأدنى الممكن ضمانه من كل وديعة، وكيفيّة التعامل مع سائر الودائع، بالإضافة إلى نسبة الخسائر التي ستتحمّلها المصارف من رساميل أصحابها. ما زال هذا القانون قيد الدراسة في وزارة الماليّة ومصرف لبنان، ولم تتمّ إحالة أولى مسوّداته إلى الحكومة بعد.
يمكن القول أن المعركة الكبرى لم تبدأ بعد، وإن كان قانون رفع السريّة المصرفيّة سيتيح إقرار معالجات أكثر عدالة عند إقرار قانونَيْ إصلاح وضع المصارف والانتظام المالي. إذ أنّ أهمّ النقاط الساخنة، المرتبطة بمصالح المصرفيين أنفسهم، ستتمّ معالجتها في الإطار التشريعي الذي سيرعى عمليّة إعادة الهيكلة، وهذا ما لم يُبَتّ به بعد. غير أنّ تطوّرات هذا الأسبوع تدلّ على أنّ الضغط الدولي، إلى جانب الضغط الإعلامي والسياسي المحلّي، كانا مُجديَيْن في فرض تنازلات مهمّة على الكتل النيابيّة التي كانت تنصاع تقليديًا لضغوط اللوبي المصرفي. وهذا ما يدفع للتفاؤل بإمكانيّة فرض تنازلات مشابهة خلال الفترة المقبلة.