نقد
سلسلة
ممارسات ثقافية
غسّان سلهب

أحياناً

21 آذار 2022

هكذا صُنع فكر البشر، فهم يعتبرون دوماً أن الواقع خانهم وباغتهم، مع أن هذا الأخير كان قد بشّر بقدومه كالحبر على ورق.

— كليمان روسي، مبادئ الحكمة والجنون.

لم يجرؤ على طرح السؤال عليّ فوراً، بل راح يلتفّ حول الموضوع، منتقلاً من عموميات إلى أخرى. لم نلتقِ منذ فترة طويلة. وهذا كان كل ما نفعله، نلتقي فقط، مكتفين بأغلب الأحيان بحركة يد أو رأس. أحياناً لم نعرف بعضنا بعضاً حتى، أو كنّا نتظاهر بأنّنا لم نعرف بعضنا بعضاً. لكثرة ما كنا نتقدّم مقنّعين. اضطر إذاً للمرور بكامل المجاملات، مهما كانت صادقة أو وديّة، قبل أن يسألني إن كان لا يزال يحقّ لنا الإنتاج، وإن كانت لا تزال هناك أي فائدة منه. الإنتاج؟ نعم، إنتاج عمل، عمل لعين، أياً يكن، فنياً أم غير فنّي، مهما كان يحمل هذا الإنتاج من معانٍ بعد. هذا ما قاله حرفياً، قبل أن يضيف: هل يحقّ لنا حتى تنظيم نشاط ثقافي. لم يسألني إن كنت قد قمت بإنتاج أي شيء أو إن كنت أستعدّ لفعل ذلك. كانت نظراته مذعورة. لكنّه لم يغضب وبقي صوته رقيقاً. هل يحقّ لنا؟ أفلتت منه ضحكة خفيّة ومتوتّرة. كيف يمكننا بعد؟ لم ينتظر جوابي. كان عنقه قد غرق بين كتفيه، فيما يبتعد بخطى متردّدة في شوارع حيِّنا. 

لم أعد أدري منذ متى بالضبط وضع جانباً ريشه وأقلامه وصباغه وأنابيب ألوانه. لربّما كان قد شارك في كتابة الشعارات على بعض الجدران خلال تلك الأشهر الشهيرة. لست متأكداً من ذلك .غير ان أسلوبه كان على أحد الجدران، عند حدود وسط المدينة، كان ذاك العنف شبه المجرّد قد أخضع كياسته الخطية لقدرة الخط والألوان، بالأخص الأسود والأحمر. كنت أدرك أنه كان يسائل نفسه أكثر مما كان يسائلني، وأنها لم تكن مسألة حشمة أو فجور؟ ألم يكن يفهم ذلك. هل هذا ممكن؟ هل هذه الكارثة مجرد شيء تافه؟ خداع؟ لكن، كالعديدين، وأنا من عدادهم، كان قد استمدّ الوحي والحوافز من الكارثة، مهما اختلفت طبيعتها ودرجاتها، بعدما لم يعد، أو لم نعد مذهولين بما حصل، عندما «تخطينا» هذه الحال نوعاً ما، كي لا أقول إننا تفوقنا عليها، أو على نحو مبتذل، عندما اعتدنا عليها، حتى ونحن في خضمّها، في قلب كارثة لم نرَ نهايتها. لم تعد الكارثة تُحدث أي فارق. لكن كم من كارثة يستطيع المرء أن يتلقى في حياة واحدة؟ متى تصبح الكارثة الجديدة هي «الكارثة الفائضة»؟ إلى متى يستطيع المرء أن يستخلص حافزاً منها قبل أن تطرحه أرضاً بشكل نهائي؟ هنا لن أذكر الذين يضعون يدهم على قلوبهم أو الذين تملأ جيوبهم وأفواههم المفاهيم أو التصوّرات، الذين يستفيدون، دوماً، مهما كانت الظروف. 

بعد، نعم، وحدها هذه الكلمة. نهاراً وليلاً، في كل اللحظات بالحقيقة. لم أتذكر إلّا هذه الكلمة، وعلامة الاستفهام، لا علامة التعجب، التي ترافقها. أكثر من مسألة أخلاق، حق أو واجب، أكثر من مسألة ضمير، ضمير مرتاح أو مؤنّب، أو حتى ضمير لا وجود له. ما النفع بعد؟ ما النفع من أي شيء؟ هل يمكن القول إنّ السؤال لا يُطرح إلّا اليوم، هنا والآن، في هذه الأزمنة التي لا تُسمّى، وأن الأمور كانت بديهية من قبل — الإنتاج، صناعة عمل، إبرازه أو محاولة إبرازه، مع صدى متفاوت، أيضاً في الهامش (عمداً، أي عن وعي كامل)، أو خارج الدوائر والخطابات المهيمنة، محتجين عليها من كل حدب وصوب؟ على السؤال الذي طُرح بالماضي، لمَ تكتبون، لمَ تصوّرون، بل لمَ ترسمون، لمَ ترقصون، لمَ تؤلفون، لمَ تمثلون، لمَ تُخرجون، لمَ تنحتون، لمَ تبنون، ما الردّ، أي سرد نقدّم، سرد شخصي وفردي أو مشترك؟ ألا يزال ممكناً أن نقول (لأنفسنا) وأن نكتب أن الفنان على رأس  البشرية، كما التمثال على رأس  القاعدة، ووحده هو يستطيع أن يحزر معنى الحياة، كما كتب نوڤاليس؟ هل اليوم هو ذلك الكاشف، المعرّي، هذه المقولة الأبدية «إما الآن أو أبداً»، أو كما قال طوماس مان، الفن لا يشكل قوة بل ليس إلا مجرد عزاء؟ على ما يبدو، من المستحيل أن نُشبع حاجتنا إلى العزاء.

(أن نقول لأنفسنا إن وحدها حركات، مبادرات، خارج الدروب المألوفة، خارج أي حاجة «للتقدير»، خارج أي سعي للمثالية، ضمن بدائل حقيقية، فردية و/أو جماعية، من دون طبل ولا زمر، وحدها هذه المقاومات رغم كل شيء؟ كالفراشات المضيئة في ليلتنا؟)

ترجمة ألين جبارة

سلسلة

ممارسات ثقافية

«الفن بعد الكارثة»، «الممارسات الثقافية بعد الانهيار»، «الثقافة بعد التمويل»… طرق مختلفة لمقاربة سؤال واحد، بات أقرب إلى لعنة تلاحق ممارسات عليها أنّ تبرّر وجودها دوريًا بإسم كارثة أكبر: الحرب، الانهيار، الأزمة…
ربّما كان في تكرار هذا السؤال إشارة إلى قلق خفيّ، قلق مَن يُنتج هنا، في حقول ثقافية دائمًا قيد الإنشاء، ودائمًا قيد التدمير. لكنّ في السؤال أيضًا دعوة لمعاينة حاضر أصبحت فيه الثقافة مطالبة بأن تكون أكثر ممّا هي، أن تكون إحدى الإجابات على أسئلة هذا الحاضر.

كاميرامان المخابرات والفن | نقد
عن عدم ضرورة العمل المسرحي اليوم | نقد
حول غرفتي | نقد
النقد الأدبيّ في الصحافة اللبنانيّة: اجترار الخواء | نقد
أي فنّ أريد؟ | يوميات
سي.ڤي. الكارثة | نقد

آخر الأخبار

حدث اليوم - فلسطين  الجمعة 19 نيسان 2024
«لا مجاعة في غزّة»
جعجع: الأمن الذاتي بحجّة مكافحة النزوح السوري
اجتياح رفح 
الإفراج عن الأكاديمية نادرة شلهوب كيفوركيان
خوفاً من مذكّرة اعتقال دولية