كم كان الرؤساء الثلاثة تعيسين وهم يشرفون على «الاحتفال» العسكري لاستقلال لبنانهم. كانت وجوههم مليئة بالخيبة، كأنّ هناك من أجبرهم على الحضور. فهُم يدرون أنهم هُزموا، وأنّ عهدهم انتهى، حتّى عميدهم، رئيس مجلس النواب، خانت تعابير وجهه الجامد ما يجول في صميمه «لماذا أنا هنا؟ أعيدوني الى قصري».
كنّا في صغرنا مجبورين في المدرسة على المشاركة في طقوس عيد الاستقلال. نصل في السابعة صباحاً والنعاس يصبغ جفوننا، فيسلّموننا علم لبنان مطبوعاً على ورقة صغيرة، فنجتمع بالقاعة المطرّزة بالأعلام اللبنانية المطبوعة على أوراق أكبر، ويأمرنا الراهب المسؤول بالسكوت، ثمّ نبدأ بتلاوة الأناشيد: «كلنا للوطن»، «راجع يتعمّر راجع لبنان»، إلخ...
لم أكن أدري فعلاً معاني الكلمات التي كنّا نلقيها، ولم أستوعب المشهد الذي كنت أشارك فيه. كلنا للوطن، مَن كلنا؟ لماذا يرتدي بعض رفاقي الصغار بزّات عسكريّة؟ أين يصنعون البزّات الصغيرة الحجم؟ هل يحيكونها على ماكينات خياطة صغيرة أيضاً؟ لماذا أنا هنا؟ أعيدوني إلى البيت.
حين كبرت في السن، تحوّل عيد الاستقلال إلى نهار عطلةٍ آخر من أعياد الدولة الطائفية الوفيرة، نستذكره حين نستفسر عمّا وراء كل هذه الزحمة في الأسبوع الثاني من تشرين الثاني، فيأتي بيان الجيش معتذراً أن عسكره في الشوارع يتدرّبون على المشي في خطٍ مستقيم.
أتت ثورة 17 تشرين لا لتطيح بالنظام الطائفي وحسب، بل بعيد الاستقلال ومفهومه أيضاً. فلن نعود إلى الزحمة وشلّ العاصمة والملّالات على شارل حلو وأغاني زكي ناصيف.
بعد 17 تشرين، قام المنتفضون باحتفال استقلال لبناننا بدون إذنٍ من أركان النظام الطائفي: أنتم ليس مرحَّباً بكم. ففي حفلة استقلال لبنانكم، تستعرضون أفواج المكافحة والمخابرات التي تضربنا وتعذّبنا. في عيد استقلال لبناننا نقدّم أبهى ما لدينا: فوج قارعي الطناجر وصداعهم الذي يذكرنا كل يوم في تمام الساعة 8 مساءً أن الثورة مستمرة، فوج البيئة وقبّعاتهم الخضراء التي تحمي مرج بسري والرملة البيضاء من اعتداءاتكم، فوج المحامين المستقلّين الذين يتهافتون لإخراج ثوّارنا من سجونكم، فوج العاطلين عن العمل الذين اختاروا ألا يهاجروا بل أن ينتفضوا حتى تهاجروا أنتم، فوج الهيلاهيلاهو الذي قضى على أحلام الصهر بالرئاسة. حتّى فوج متقاعدي المؤسسة العسكرية، وعلى الرغم من تحسّسي من العسكر، بدا أشرف وأسمى من تلك السلسلة من الرتب والنجوم والسيوف المتأهّبة خلفكم.
منذ استقلالنا عنكم في 17 تشرين، وبعد 36 يوماً فقط، أقمنا احتفال استقلال فاض بحيويّة ومرح لن يُنتسيا حتى بعد زوالنا وزوالكم. منذ 30 عاماً وأنتم تحتفلون باستقلال لبنانكم وتقيمون استعراضات مملّة لا تمسّنا بشيء. لن نعود الى ما قبل 17 تشرين، فقد ولّى زمن الملالات. بعد الآن، لن ننتظركم ساعات في سيّاراتنا كي تجيدوا السير في خطٍ مستقيم، فاليوم هو يومنا. أنتم الماضي التعيس ونحن المستقبل المفعم بالأمل.