تحليل الانتخابات الأميركيّة
فادي بردويل

بيرني ساندرز: ثورةٌ في الداخل، تخبُّط في الخارج

18 شباط 2020

احتشد اكثر من ثلاثة آلاف شخص في مركز المؤتمرات في وسط درهام (نورث كارولينا)، إحدى عواصم التبغ العالمية في القرن الماضي، للاستماع إلى بيرني ساندرز. امتلأت القاعة الأساسية، ففتح المنظِّمون صالةً إضافية، ووضعوا فيها مكبّرات للصوت ليتسنّى للناس متابعة كلمات المرشّحين المحليّين ومرافقي ساندرز في جولته الانتخابية، كالممثلّة البارزة سوزان ساراندون. فساندرز الساعي لكسر الصورة النمطية عنه كرجل أبيض مسنّ لا يرى إلّا الفوارق الطبقية غير آبهٍ بأشكال السلطة الأخرى كالتمييز ما بين الرجال والنساء والعنصرية، خاصّةً تجليّاتها البنيوية في عنف الشرطة ضدّ الأفارقة- الأميركيين، يحيط نفسه بفنانات من أجيال وبيئات مختلفة، كمغنية الراب كاردي ب التي تصغره بحوالي نصف قرن.

يدخل ساندرز إلى القاعة الإضافية أوّلاً. ترتصّ الكتلة البشرية المتبعثرة في الصالة بسرعة. تتّجه الأنظار كلّها نحو منصّة متواضعة. يقف الرجل جامداً، لا يتحرّك كثيراً وبسهولة. لا ليونة في وقفته، ولكن لا تكلّف أيضاً. يبتسم بخفر لصيحات الترحيب. بعد بضع كلمات مقتضبة عن النتائج الانتخابية، يدخل المشرّع المخضرم مباشرةً في صلب الموضوع: لهذه الحملة عنوانان أساسيان. أوّلاً، معاً سوف نهزم أخطر رئيس في التاريخ الحديث لهذه البلاد. ثانياً، سوف نعمل على تغيير حكومتنا واقتصادنا، لكي يمثّلانا كلّنا ولا يمثّلا الواحد في المئة فقط.

يتحدّث بيرني، كما يسميّه مؤيّدوه الساعون إلى تقليص المسافة الاجتماعية التي تفصل ما بين النخب السياسية والناس، بهدوء وحزم. لا تشابيه، لا استعارات. كلمات بسيطة وجمل صغيرة. يلفظها وكأنه يقطّعها. تخرج كرشقات موزونة. تصيب قلوب الحاضرين وتتيح لهم الوقت الكافي للتفاعل بالتأييد أو الاستنكار: إنّي أعرف أنّ الحدّ الأدنى للأجور، هنا في نورث كارولينا، هو 7,25 دولاراً في الساعة (استهجان)… سوف نضع حدّاً لأجور المجاعة في أميركا ونرفع الحدّ الأدنى للأجور لـ15 دولار في الساعة (تأييد). لا خطابة مملّة. صيغة سؤال/جواب سريعة، يضبط إيقاعها ساندرز بدقّة. لتلك الجولات مفعول تصاعدي. فترتفع الحرارة في الصالة شيئاً فشيئاً. غادر المرشّح نحو القاعة الرئيسية بعد سبع دقائق. استطاع خلالها شحن الجمهور بطاقة هائلة نقلتْهم من حالة أفراد وعائلات وشلل مبعثرة في قاعة مؤتمرات إلى جماعة سياسية قيد التكوين. تتجلّى تلك الطاقة على وجوه الناس المضيئة وابتساماتهم وأحاديثهم التي تعكس أملاً أكثر وارتياباً أقلّ، رغبة في التواصل أكثر وعزلة أقل.

يتناول ساندرز عناوين ما يسميّه «ثورته السياسية»: تحسين الأجور وردم الهوّة ما بين أجور النساء والرجال (79 سنتاً للدولار)، ضمان الاستشفاء، مواجهة الاحتباس الحراري، إلغاء ديون الطلّاب، إصلاح النظام الجنائي العنصري، إصلاح نظام الهجرة، تشريع الماريجوانا، الحدّ من الأسلحة، والتأكيد على حقّ النساء في التحكّم بأجسادهنّ. يؤكّد مجدّداً نصرته لحقوق الناس العاديّين ضدّ أهل القوّة– وول ستريت، شركات التأمين والأدوية، المجمّع العسكري-الصناعي والمجمّع السجني- الصناعي و«الواحد في المئة اللعين».

شكّلت السياسة الخارجية الغائب الأكبر في لقاء ساندرز مع ناخبي درهام. لم يتطرّق إلى رؤيته لدور الولايات المتحدّة خارج حدودها في عالم تملك فيه ما يقارب الثمانمئة قاعدة عسكرية. لم تكن يوماً السياسة الخارجية ملعبه. لكنّه، وعلى خلاف حملته الانتخابية الأولى التي قلّما تطرّق فيها إلى المواضيع الدولية، يسعى الآن إلى دحض تهمة الانعزالية. فقد بلور ساندرز أخيراً مجموعة أفكار تنظر إلى العالم كحلبة صراع ما بين قوى الاستبداد وقوى الديموقراطية. فربط ما بين ترامب في الداخل وأمثال بولسنارو وبوتين ونتنياهو في الخارج. يصف ساندرز السعودية المحسوبة على قوى الاستبداد بـ«الدكتاتورية المستبدّة». لكنّه لا يحسب بين تلك القوى إيران التي يريد إعادة إحياء الاتفاق النووي معها، والتي دعاها بتهذيب إلى احترام حقّ الشعب بالتظاهر بدون التعرّض للعنف، عقب قمع النظام الدموي لحركات الاحتجاج الأخيرة،.

ليس ساندرز معارضاً للتدخّل العسكري الأميركي في المطلق، كما يظنّ البعض. أيّد الحرب على صربيا واجتياح أفغانستان، بينما وقف ضدّ غزو العراق. عارض، بالرغم من إدانته الصريحة لجرائم بشار الأسد، إرساء منطقة حظر جوي فوق سوريا، بينما ساند حرب أوباما على الدولة الإسلامية. وضوح ساندرز في الداخل يوازيه تخبّط في السياسة الخارجية فيما يتعلّق بمنطقتنا، يميل إلى المنطق الأنتي-إمبريالي التقليدي الذي يدين إجرام الأنظمة المتحالفة مع الولايات المتّحدة ويراوغ عندما يتعلّق الأمر بفظائع الأنظمة الممانعة.

آخر الأخبار

حدث اليوم - فلسطين  الجمعة 19 نيسان 2024
«لا مجاعة في غزّة»
جعجع: الأمن الذاتي بحجّة مكافحة النزوح السوري
اجتياح رفح 
الإفراج عن الأكاديمية نادرة شلهوب كيفوركيان
خوفاً من مذكّرة اعتقال دولية