نظرة العنف اليومي الخفي المتفشّي
پترا سرحال

كوريوغرافيا السيطرة

15 نيسان 2023

أمشي مع جمهوريَ الصغير. خلال عرضٍ فنّي مدّته ثلاث ساعات، بعنوان «عبر مدينة».
نجول في المدينة بحثاً عنها وعنّا. لعلَّ المشي سويّاً كمجموعةٍ يصبح فعلاً سياسياً نحتلّ من خلاله المكان ونختبره جسدياً— أو هكذا نظنّ.

توقّف دركيّ، أطلّ من سيّارته وسألني:

- ليش مجَمّعين هون على ساحة رياض الصلح، في شي؟
- عم نتجمّع لنمشي ببيروت. 
- اه مش مظاهرة؟

قلت: لا. ثم تساءلت في سرّي: مظاهرة؟ لنعترض؟ لنطالب؟
ثم فكّرت. التظاهر من كلمة «ظهر»، أي بدا واتَّضح بعد خفاء.
هل فعلاً اختفينا حتّى نظهر؟

ربّما اختفينا فترة من بيروت، بعد انفجار المرفأ تحديداً، إذ كان آخر ظهورٍ لنا في 8 آب 2020 في ساحة الشهداء.
لعلّنا انوجدنا بعد ذلك التاريخ، لكن فقط كأشباح.

أسأل نفسي: هل المسار المُصمَّم أو الكوريوغرافيا التي حضّرتُها مسبقاً فيها تحدٍّ للسلطة التي تسعى إلى السيطرة على حركتنا اليومية؟ هذه السلطة ترغب بتصميم تحرّكنا فتُضَيّق أو توسّع طرقات، تهدم مباني وتبني أخرى. 
تُعطي سلطةً وقوّة للأمن والمسؤول.
تُلغي الشمس والهواء والسماء.
تجرف أدراجاً وتشقّ أوتوسترادات.
تُغطي أنهاراً وتردم بحراً.
أمّا العيون، فقصر نظرُها، والأنف انسَدّ، والقدَمان كسُلتا.

يمكن كذّبت على الدركي لمّا قلتلّه مش مظاهرة. 
بس كنت بدي إمشي بدون مواكبة أمنية. 
كنت بدي إمشي متل ما صمّمت العرض والمسار بدون ما يتدخّل أو يتحكّم الدركي بحركتي.
عادةً بالمظاهرات كنا نعتقد إنّو نحن قرّرنا مسارنا، ونكون فعلاً قرّرنا مسارنا، بس كنا نكتشف نحن وعم نتحرك إنو تصميمنا عم يتعدّل ويتغيّر حسب المنظّمين أو غالباً حسب مسؤول الحركة بالمنطقة يلي عم نمرق فيها.  
والمسؤول هو الشخص يلي مُفترض إنّو ينسأل ويتحاسب على أعماله. أما المسؤولين عن الحركات والطرقات والمناطق والأحياء والزواريب، فسلطتهم على حركتنا إلها قواعد حرة. 

نمشي ونتظاهر، ونُكمل مشينا من دون وعينا لفكرة أنّنا مطيعون لكوريوغرافيا السلطة.
«الأمن»، هكذا نسمّي الدركي أو البوليسي أو مسؤول المنطقة؛ فهم المسؤولون عن الأمن والسلامة العامة، والأرجح أنّنا نُطيعهم تحت هذا العنوان، نُطيع القائد المتحكّم، بل نسعى أحياناً إلى الشعور بالأمان بحضوره وفرض سيطرته.

نتظاهر…

في المظاهرات تُصمّم السلطة أجسامنا في الطرقات.
في المواجهات تحدّد السلطة حركتنا وحدّتها ومدّتها.
في التحرّكات نحن نُطيع كورويغرافيا السلطة، بالرغم من اعتقادنا بأنّ تحرُّكنا حرّ ومُرتجل ونابع من ضرورة اجتماعية وسياسية.

إلّا أنّ تحرُّكنا يتمّ التحكُّم به بدقّة. 

سلطة التحكم هذه كما يسمّيها الباحث والكاتب اندري ليبيكي هي الكوريوبوليسية، فالبوليس أو الأمن والشرطة، كما يقول هو القوّة الحامية للنظام ومساره. وإنّ الغرض من الكوريوغرافيا البوليسية، إذن، هو نزع مسار العمل السياسي عن طريق تنفيذ نوع معيّن من الحركات التي تمنع أي تشكيل وتعبير سياسي. وهكذا يمكن تعريف الحركة الكوريوبوليسية على أنها تكرار دائم (أو إنتاج لا نهائي) للحركة والحضور المتوافق عليهما «بوليسياً» فتضبط التحرُّك الجماعي والجسماني وشعور الإنتماء للمدينة. كوريوغرافيا السيطرة إذاً لا تعمل فقط على حركة جسمنا وإنّما على طريقة تفكيرنا وتحليلنا للحركة، وتؤثّرعلى طريقة ارتجالنا وتصميمنا للحركة وعلى نظرتنا لجسدنا ونظرة الخارج له. 

لمّا بطلع بالسيارة وبقفّلها.
لمّا بوقف على حاجز الجيش، بطفي الراديو وبفتح الشباك وبسلّم على الجيشي. أوقات ببتسم أوقات بجؤر.
لمّا بسوق متل لعبة السيارات بالأتاري، بروح يمين وشمال لإقطع حواجز الجيش الزيغ زاغ.
لمّا بلبس تياب مستَّرة لروح على دايرة رسمية.
لمّا يصيروا عيوني يغزلوا بكل الاتّجاهات بس امشي بالليل وتصير مشيتي سريعة ومتأهّبة ومترقّبة وراسي مرفوع.
لمّا صف على أتوستراد وعربش على حاجز باطون لأوصل على بيت رفيقتي لأنو اذا بدي فوت بالسيارة بدي لف الكوكب.
لمّا آخد سرفيس أو سوق من الأشرفية على الحمرا لأنو بيناتن في أتوستراد ولأنو الطريق القصيرة من وسط البلد مسكّرة.
لمّا غطّي شعري بحضور شيخ ووطّي عيوني لما تطلع عيني بعينه.
لمّا ادعس على روس أصابيعي أنا وفايته على حمّام بدائرة رسمية ت ما يتشتش صبّاطي.
لمّا أوقف بالدور برّات البنك.
لمّا تنمّل إجري بعجقة السير.
لما إمشي عالرصيف، ويختفي فجأة.
لمّا يبلّش يخلّ التوازن بأفكاري. 
لمّا يجي عبالي انهار بنص البنك وصير صرّخ.  
لمّا تجيني فكرة انه اخبص الدركي يلي واقف بنص الإشارة.
لمّا قرّر ما حط المنديل بالمحكمة الجعفرية. 
لمّا بلش فكّر كيف بدي احرق البنك. 
لمّا قرّر ما افتح الشباك بس امرق على حاجز لمسؤول المنطقة وصير أشّر بإيدي انو شو بدّك.
لمّا صير قول لحالي وعيد: اعملي هيك، ما تعملي هيك، عملي هيك، ما تعملي هيك.
لمّا إتخيّل طرق لاغتيال المجرمين بالبلد.
هون بعرف انه تمّ السيطرة على دماغي وتمّ تغيير نوع ومضمون «التصوّر الحركي» يلي هو عملية عقلية منتدرّب من خلالها انه نعمل حركة جسدية بس براسنا.
وبتصير حركتي جامدة أو مهزهزة وببطّل أعرف إذا انا عم بعطي أمر للحركة الفعلية أو الحركة عم تعطي أمر بدماغي.

نتظاهر بحرية حركتنا.

نمشي.

ما كان بدّي الدركي يحدّدلي أو يعيد تصميم عرضي الفني.
ابتسم الدركي وقال: خي فيني روح عالبيت، لأنو اذا كنتوا بدكن تتظاهروا كان صار عندي شغل.
فعزمته يغير بدلته الرسمية وينضمّ للجولة. ابتسم. 
راح وما رجع.

فكّرت: لو انضمّ الدركي للعرض، لكنت أنا من صمّمتُ حركته، ربّما. لكن ربّما، لكان هو من تدخّل بالعرض وأعطى رأيه بتاريخ المدينة. أو ربّما كان ليقترح طريقاً آخر، كونه يظنّ ألّا شيء مثير للاهتمام في هذه الشوارع الفارغة. وحين يأتي دور حديثي عن المستثمرين العقاريين وسلطتهم في تحديد شكل المدينة وحركتنا، هل كان لينتفض الدركي ويطالبني بإعادة كتابة النص؟ هل كان ليفشي عنّي أمام سلطات أعلى؟ هل كانت ستتغيّر علاقته بالمكان؟

نمشي.

يسألني البعض: ليه عم نمشي على الأوتوستراد؟ وليش على هيدي الميلة من الأوتوستراد مش ميلة المرفأ؟ 
أُجيب، لكنّهم لا يسمعونني لأن ضجيج الأوتوستراد يمحو صوتي. فأصرخ.

تسعى السلطة إلى إيجاد كافة السبل والوسائل التي تمكّنها من أن تتحكّم وتصمّم أين نمشي وفي أي وقت، وأين ومتى نسكن ونهاجر، وأين ومتى نُحبّ وأين ومتى نطالب بالتغيير، وأين ومتى نسهر وأي ساعة ننام ومتى نستحمّ وماذا نرى وماذا نسمع وأين نهمس وأين نموت وأين نُدفَن ومتى نختفي ومتى نختنق— أو هكذا تظن.

أمشي مع جمهوريَ الصغير في بيروت فوق قبور كانت تقع خارج المدينة، أصبحت هي المدينة.
أمشي على بيوتٍ كانت سكناً فأصبحت ساحةً مُفرغة.
أمشي على أراضٍ زراعية كانت بالماضي ضواحيَ المدينة، أصبحت اليوم طرقات مزفّتة وجزءاً من المدينة.
أمشي على طبقةِ أرضٍ مرصوصة بالبترول الأسود والحجر، تنتمي إلى عصرنا الحديث، تغطّي طبقات من العصر الحجري أو البرونزي والذهبي والروماني والعثماني. عصرٌ يشتهر بالدمار والأماكن الملوّنة الخالية. ماكيت كبيرة لمدينة صغيرة، يمكننا رؤيتها من الخارج، لكن فور دخول الماكيت تنهار تحت أقدامنا.

أمشي...

عند كل خطوة أتقدّم فيها في هذه الشوارع أشعر أنّ الزفت يختفي تحت قدمَي، فلا يمكنني التراجع، إذ لم يعد هناك لا زفت ولا طريق. أتقدّم. 

أمشي...

مع كلّ خطوةٍ أحاول أن أخبر السائرين معي عمّن احتلَّ ومن عمَّر ومن هدَّم ومن بنى ومن احتلَّ ومن قمع ومن محا ومن كتب ومن رقص ومن مشى. أحاول.

أمشي ...

فأنتقل من مكانٍ إلى آخر، من زمن إلى آخر، من حقيقة إلى أخرى. 

لكن عندما نمشي من مكان غير موجود إلى مكان غير موجود فماذا نصبح؟ 
هل نذهب من وَهمٍ إلى وَهم؟

نحاول أن نمشي على زفتٍ أسوَد يختفي في الظلمة فنصبح أشباحاً. نرقص في محاولة لتضييع الوقت. بلا جدوى. نرقص مع خيالنا وخيالنا. 
فلا أحد هناك لنراه- أو هكذا أظنّ.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان
قتيل بصواريخ حزب الله على نهاريا 
 أعنف هجوم إسرائيلي على الأراضي السورية أكثر من 68 قتيلاً في غارات تدمُر