نظرة ثورة تشرين
جان قصير

ناطرين

2 آب 2024

أنباءٌ عن ضربةٍ محتملة.
محدّدة ولكن موجعة. سريعة ولكن حاسمة.

إلغاء الرحلات. تحذير السفارات. هستيريا الاغتراب.
واصلين بكرا… منلغي؟

الضربة خلال ساعات.
قبل نهاية الأسبوع. 

جدار صوت؟ قصف؟ فرقيع؟
صور دخان يتصاعد. ثمّ ركام.
ثمّ أطفال يحملون صورة صديقهم الشهيد.

شريط لامتناهٍ من الرسائل والصور تتوالى على الهاتف. خبر عاجل. مجزرة. عرس. فود بلوغر. مجزرة. تهديد إسرئيلي. تحذير دولي. نفي. تأكيد. نقّ. سهرات. مراوح عالبطاريّة للبيع. مجزرة. سَفَر. ميمز. مواعظ. بودكاست. مجزرة. 

شكله الردّ خلال 24 ساعة... الله يستر.

انسومنيا.

شو قال بايدن؟
أيّه ساعة رح يحكي نصر الله؟

ناطرين…

العودة إلى الـ«مورنينغ روتين» على وقع تهديدات يوآف غالانت.

قهوة. جيم. شغل. جدار صوت. ما حدا رح يفاجئنا هالمرّة. ناطرين المصيبة على كوع، ونحن وناطرين، منأدّي دورنا بالمشهد. منقلق. منروح عالشغل. منكره الشغل. منقدّم لبرّا. منأجّلها سنة. مننطر. 


الانتظار: أحدث تجلّيات العجز والهزيمة

لم أعد أذكر حياتنا قبل الانتظار.

قبل بداية الحرب، كنا أيضاً ننتظر. بعدما توقّفت عجلات السياسة في لبنان مع انتصار الثورة المضادة، حدّد كلّ منّا موقعه من هذا «الانتظار». هناك من رفض اللعبة وقرّر الانقطاع عن الأخبار واعتناق العدميّة المطلقة والاستمتاع بما هو متاح. وهناك من انتظَر، وما زال ينتظر. قبل الحرب، انتظار الرئيس، وقبلهما انتظار الحكومة ورئيسها، ثمّ شحنة الفيول العراقي وترسيم الحدود البحريّة والقرار الظني للقاضي طارق بيطار. مجتمع الانتظار، بين متحمّسين للخراب الشامل ومدمنين على التوهّم.

إذا ما كبرت ما بتصغر… خليها تولع ونخلص بقى. 
متل ما عم قلّك… فرنسا وأميركا ما بيخلّوا لبنان يفرط.

لا يعكس انتظارنا البائس هزيمة انتفاضة تشرين فحسب، بل هو اعتراف المجتمع بعجزه المطلق عن تقرير مصيره. مجتمع لم يعد يؤمن بقدرته على الفعل. وكأننا لم نفعل يوماً.  كأننا لم نقاتل، لم نصرخ، لم نأمل، لم نتنظّم. لم نتفوّق، قبل أن نتراجع.

كأننا لم نعرف يوماً شيئاً آخر سوى الانتظار.

قبل أن تُخرجنا الحرب من السياسة، استطاع النظام تحويلنا إلى مشاهدين ينتظرون.

أدرك النظام باكراً أنّ نجاته من موجات الغضب الشعبيّة تكمن في إطالة الزمن حتّى نفاد قدرة المجتمع على الفعل والخيال. في ظلّ غياب بنى تحتيّة سياسيّة معارضة، تحوّل الامتعاض الشعبي إلى فعل سياسي، فاكتفت القوى المهيمنة بإطالة الاستحقاقات وشراء الوقت، ومن ثمّ تضييق الخناق على المعترضين لشلّ قدرة المجتمع على الحركة.


معانٍ أخرى للانتظار

لكن لم تكن حالات الانتظار في الماضي تشبه دوماً لحظة البؤس التي نعيشها اليوم.

بين عامَيْ 2008 و2015، انحدر البلد تدريجيّآً نحو اللا-سياسية بعد أن اجتاح حزب الله بيروت وفرض بالقوة إيقاع اللعبة وسلّم الجميع بهيمنته. ثبّت اتفاق الدوحة المعادلة الجديدة عبر مثالثة مقنّعة، وحجّم حدود الممكن السياسي. لكن في اللحظة التي انسدّ فيها أفق السياسة التقليديّة في لبنان، اختار البعض إعادة تعريف الانتظار عبر التنظيم وبناء القوّة، تحضيراً لفرصة مقبلة قد تأتي. في الجامعات برزت خلايا طلابيّة معارضة تشقّ طريقها بهدوء. وفي الأوساط النسويّة والبيئيّة باتت المجموعات والحملات تحاول البحث عن مداخل جديدة لتعريف ما هو «سياسي». وشكّلت الثورات العربيّة حافزاً إضافيّاً لهذا الجيل من الناشطين، الذي حرّر نفسه من نوستالجيا وإحباط انتفاضة الـ2005 وحدّد أفقاً جديداً لـ«الممكن السياسي»، مستمدّاً قوّته من لحظة الـ2011.

من الهوامش، كنا نشعر بالمعنى. ربّما لم يكن لدينا تأثير على المشهد، كما هو الحال اليوم، لكن الطاقة والخيال كانا متوفّرَيْن. كنا نعمل بلا كلل ضمن خلايا ومجموعات لا يعرفها أحد. بشغف والتزام، دون ضجيج. لم يكن البلد يشبهنا، كما هو الحال اليوم، لكن كان لدينا رفاق ورفيقات، نعيش معهم حياةً لا تشبه هذه المدينة. ملتزمون معاً، نعمل معاً، نفرح، نأمل، نخطّط معاًً. وضوح الصورة، دفء الرفاقيّة، متعة النضال: أشياء فقدناها تدريجياً عندما خرجنا من الهامش وابتلعتنا لعبة السياسة التقليديّة.

شكّلت تلك المجموعات حالة طليعيّة، تنمو بهدوء إلى جانب الأزمات والحلول المنتظرة، حتّى استطاعت التسلّل بين تشقّقات النظام واغتنام الفرص في حراك الـ2015 ومن ثمّ انتفاضة 17 تشرين، حين اكتشفت محطات التلفزيون ناشطين شباباً يتقنون لغة سياسيّة غير مألوفة، تحاكي تطلّعات جيلهم.


حتميّة الفرص والعجز عن الخيال

لكن اليوم، كيف لنا أن ننتظر فرصاً في الوقت الذي ما زالت ترتسم فيه حدود الكارثة وملامحها. كلّ يوم يستمرّ فيه الاحتلال في إبادة الشعب الفلسطيني، نكتشف أبعاداً جديدة للأسوأ. كلّ يوم تستمرّ فيه الحرب في الجنوب، نكتشف عمق الطلاق في المجتمع اللبناني.

لم تكتمل الكارثة بعد. الأنظمة مأزومة في كلّ مكان، والاعتراض عارم .لا حلول في الأفق، مجرّد خيارات سيّئة لتفادي الأسوأ. التوتّر الصاعد بين شباب مستاء وغاضب حول العالم وأنظمة مهترئة، سيولّد حتماً المزيد من الأزمات.

ومعها الفرص.

قد يكون الاستنتاج الطبيعي لهذا الكلام العودة إلى الهوامش للتنظيم والعمل تحضيراً لفرصة مقبلة قد تأتي. لكن ليس في هذا النصّ دعوة لأي تنظيم. لحظات العجز كهذه تفرض السكوت والتأمّل. إنها دعوة للبحث عن معنى انتظارنا وتفاعلنا مع العجز. دعوة للتسلّل نحو مستقبل افتراضي، لاستعادة قدرتنا على الخيال، وربّما على الفعل.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
لائحة بأسماء شهداء غزّة من 649 صفحة بينها 14 صفحة لأطفالٍ ما دون السنة
إسرائيل تبتزّ طالبي اللجوء الأفارقة
هوموفوبيا الجامعة اللبنانية تهدّد موقعها الأكاديمي رئيس الجامعة يمنع مناقشة رسالة عن المثلية
تصعيد إسرائيلي على الجبهة اللبنانية: جاهزون لاحتلال الشريط
جيزيل بيليكو تشكر داعميها: بفضلكم أواصل المعركة حتّى النهاية
الشتاء يقترب: موج البحر يطال خيام النازحين