تعليق رياض سلامة
ديمة كريّم

مستر الـ30 بالمئة: الاستثمار بالفقر

6 شباط 2021

لهذه السلطة تاريخ حافل بالتعامل مع الفقر كآفة اجتماعية ثابتة، لا دور لها هي في إنتاجه. في المرحلة الراهنة، ذهبت السلطة إلى أبعد: صارت تسعى إلى «الاستثمار» بالفقر الذي استفحل بسبب الإنهيار. وهو منطقٌ مترسّخ في السلطة يجد في الجريمة «فرصة».

مؤخراً، وافق البنك الدولي على قرض قيمته 246 مليون دولار لتمويل مشروع طارئ هدفه دعم شبكات الأمان الاجتماعي وتعزيز الاستجابة لجائحة كوفيد-19 والأزمة الاقتصادية في لبنان. ويتضمن المشروع تحويلات نقدية طارئة قيمتها حوالي 206 مليون دولار، لحوالي 143 ألف عائلة لبنانية، عبر «البرنامج الوطني لدعم الأسر الأكثر فقراً» في وزارة الشؤون الاجتماعية، على مدار سنة واحدة.

تشوب إشكاليات عدة البرنامج الوطني الوحيد للحدّ من الفقر الذي أطلِق في 2011 بدعم من البنك الدولي أيضاً، وهي إشكاليات ناتجة عن: تعريف الفقر، كيفية استهداف العائلات الفقيرة، إدارته في نظام المحاصصة والزبائنية، مدى جدوى البرنامج في الحد من الفقر، وحاجته إلى تمويل خارجي دائم كونه غير ملحوظ في الموازنة، ما يعرقل استمراريته.

لكن، بجوار هذه الإشكاليات، «استقرّت» إشكالية سعر الصرف الذي على أساسه سيتم صرف المساعدات النقدية، في ظل نظام سعر الصرف المتعدّد الذي أرساه رياض سلامة. وكان البنك الدولي ينوي توزيع المساعدات النقدية بالدولار لضمان أقصى الفائدة إلى العائلات الفقيرة على حد تعبيره. إلا ان سلامة، وبدعم من وزير المالية كما عوّدنا دائماً، فرض توزيعه بالليرة، وقدّم سعر صرفٍ جديد خاص بالقرض، «الوولر»، على 6240 ليرة للدولار الواحد.

وقد أبدع هذا الرقم من العملية الحسابية التالية: سعر صرف المنصة (3900 ليرة/ دولار) + 60% من سعر المنصة (2340) = 6240 ليرة/ دولار. وبطبيعة الحال، نسبة 60% هي نسبة اعتباطية تمّت زيادتها إلى سعر المنصة الإعتباطي بدوره للخروج بسعر اعتباطي جديد للدولار.

باختصار، مصرف لبنان يصادر نسبة تقارب 30% من قيمة القرض بالدولار، على أن يتم توزيع الـ70% الباقية من القرض على الفقراء بالليرة اللبنانية.


حاول بعض الخبراء تحويل النقاش إلى نقاش «تكنوقراط»، واصفين قرار العملة التي يجب اعتمادها في توزيع المساعدات (ليرة أو دولار) بالقرار الصعب جداً. لا يريدون إيصال الدولار مباشرةً إلى العائلات الأكثر فقراً، يريدون «الاستفادة» من القرض. من هنا، اعتبروا أن المخاطر حاضرة في حال توزيع القرض بالدولار: سيتم ضخ الدولارات في السوق السوداء أو سيحتفظ بها الفقراء «تحت المخدة»، ولن يضخّوه في الاقتصاد. بعضهم ذهب أبعد من ذلك ليفترض أن نسبة 30% التي سيصادرها المصرف المركزي ليست ربحاً، خصوصاً إذا تقرر صرفها على السلع المدعومة التي يستفيد منها الجميع، ومن ضمنهم الفقراء. انهمك التكنوقراط بالتشديد على وجوب صرف دولارات قرض الفقراء بأكثر الطرق فعالية للنهوض بالاقتصاد، وليس للحدّ من أثر الفقر على الفقراء.

فعلَ التكنوقراط ما يتقنون فعله: حوّلوا النقاش إلى نقاشٍ تقني شائك، ثمّ وصفوا القرار بالصعب والمعقّد كأنه فكرة وليس قرضاً لإغاثة مجموعات سكانية صارت تحت خط الفقر المدقع، فخدموا بذلك سلطة الفساد والانهيار التي تسببت أصلاً بالفقر. ويبدو أن البنك الدولي رضي بهذه المعادلة خشية أن تقوم الحكومة بنسف القرض من أساسه، وبالتالي ضرب فرصها بزيادة تمويله للبنان.


ولكن، لنناقش القرار من منظور المصالح، بعيداً عن التقنيات المعقّدة والذين تخدمهم تلك التقنيات المعقدة.

أوّلاً، بعملية حسابية بسيطة، يتّضح أنّ تحويل المساعدات من دولار إلى ليرة على سعر أدنى من سعر السوق أدّى إلى تخفيض عدد الأسر المستفيدة من المساعدات. إن «كلفة» احتفاظ المصرف المركزي بنسبة 30% من القرض تقتضي تقليص عدد العائلات الأكثر فقراً المستفيدة منه بأكثر من 40,000 عائلة.

ثانياً، ليست هذه الخسارة مستقرة. إذ تبدو نسبة 30% التي سيتم اقتطاعها من القرض لصالح فكرة رياض سلامة ووزير المال، نسبةً مرشحة للزيادة في ظل التدهور المتوقع لسعر الصرف. ستزداد حصة المصرف المركزي من الدولار الأميركي، بينما تنخفض حصة الأسر الفقيرة التي تنتظر المساعدة.

ثالثاً، وليكتمل المشهد، لا بد من التوقف عند القناعة الساذجة بأن المصرف المركزي سيصرف «حصته» من القرض على حماية الدعم الذي سيستفيد منه الفقراء ذاتهم: لكنّ كيفية تضاؤل «الاحتياطي» بالعملة الأجنبية خلال العام 2020 هي خير دليل على مصير تلك الدولارات. فقد استهلك دعم السلع الأساسية أقل من نصف قيمة تضاؤل «الاحتياطي» الأجنبي. أما أكثر من نصف القيمة، فيُرجّح أنّه استُخدِم لـتهريب نسبة كبيرة منها. وسيستمر التهريب بفضل رفض السلطة إقرار قانون الكابتل كونترول وآليات الرقابة على حسابات مصرف لبنان. إذاً، سيستمر التهريب بحماية السلطة ذاتها التي يأتمنها التكنوقراط على 30% من قرض الفقراء.

رابعاً، اتّخذ النقاش مؤخّراً منحىً سريالياً في وضوح فساده.

أعلنت السلطة أنها ستصرف دولارات القرض المقتطعة على حاجة لبنان من المستلزمات الطبية بسبب استفحال جائحة كورونا. بمعنى آخر، أعلنت السلطة أنها ستستعمل أموال «الفقراء» لشراء معدّات طبية. كان بإمكان الحكومة الاقتراض للمعدات الطبية، من الجهة المانحة نفسها، تحت اسم «قرض المعدّات الطبية»، وليس قرضاً «للفقراء».

وبعدما أعلنت ان القرض سيذهب إلى المستلزمات الطبية- مع أحقية كافة الشكوك التي تسود هذا الإعلان- تصبح المساعدات النقدية إلى الفقراء ناتجة عن ممارسة رياض سلامة هوايته المفضلة في هذا الإنهيار: طباعة النقد. طباعة أموال للمودعين، لضحايا الانفجار وعائلاتهم، للمستشفيات، ولجميع النفقات الحكومية، ليضاف إليهم الطباعة للفقراء. وبطبيعة الحال، الطباعة هي كذبة وجريمة: كذبة أنها أموال ذات قيمة، وجريمة التضخم الهائل الذي تنتجه طباعة هذه الكتلة النقدية الهائلة، الذي يصيب الفقير أكثر من غيره. الفقير نفسه الجارية حمايته عبر الطباعة.


كان بإمكان رياض سلامة أن «يطبع» أموالاً للفقراء من دون المرور بهذا القرض. لكنّ الدولارات لن تأتي إلا على «ضهر الفقراء»، بينما التكنوقراط مهمومون بكيفية صرفها بأقصى فاعلية.

قبل الانهيار، وبإصرارٍ على مدى عقود، حارب النظام اللبناني المقاربة الحقوقية لإدارة الدولة، التي تضمن حقّ أي مواطن بالعيش بكرامة، فتنتج سياسات إجتماعية وإقتصادية تؤمن الحق بالطبابة، والتعليم، والسكن، والحماية الإجتماعية. بعد الانهيار، ترى النظام نفسه ينهب حتى الدولار الآتي بهدف تأمين الحدّ الأدنى من مقوّمات البقاء قيد الحياة. سياسة «السلبطة» هذه هي بوضوح امتداد وتتمّة للسياسات السابقة بعدما اصطدمت بانهيارها.

أما الفقراء، فلن يصلهم من هذا النظام إلا المزيد من رفع الأسعار. ولكن، وبطبيعة الحال، لا داعي للقلق: لقد طمأننا كبير التكنوقراط، راوول نعمة، إلى أن رفع سعر ربطة الخبز- رغم دعمه- يتمّ على «أسسٍ علمية».

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
استشهاد مُسعفَيْن في صور
8 شهداء في مجزرة شمسطار
الحرب و ارتفاع الأسعار 
23-11-2024
تقرير
الحرب و ارتفاع الأسعار 
حزب الله ينفي وجود أيٍّ من قياديّيه 
لكلّ يومٍ هرُّه
موجات متجدّدة من الغارات تستهدف الضاحية الجنوبية