روح تحاور مع سيّدنا محمد. هذا ما قاله الشيخ عبد المنعم الغزاوي غاضباً. أفرج عن أسنانه وفتح فمه كأنّه يبصق مفرداته بصقاً في وجه الناشط محمد الشامي الذي جاء إليه مع رفاقه متسائلين بالمحاججة عن سبب اتهامه المنتفضين في ساحة النور بالزعران.
لا هوية بالغة الشهرة للشيخ ولا لتاريخه، سوى أنه رئيس للمحكمة الشرعية في طرابلس ويسعى لمنصب الإفتاء عبر مبايعته تيار المستقبل وبيعه مواقف سياسية لرئيس الحكومة المستقيل سعد الحريري. ومن هنا تفهم حربه ضد المنتفضين منذ اللحظة الأولى لثورة تشرين، وتفهم استخدامه المسجد والعمامة لتخوين مئات الفقراء والبسطاء والمحرومين والعاطلين عن العمل.
بالطبع، لا مكانة للغزاوي لدى الطرابلسيين كمكانة الشيخ بلال بارودي، إمام جامع السلام (أحد المسجدين اللذين تعرضا لتفجيرات إرهابية). وليس له تأثير ومريدون كالشيخ زكريا المصري المصاب اليوم بمرض الباركنسون. كانت خطب المصري تحرّض شباب القبّة وضهر المغر وحارات الأسواق القديمة والتبانة والبداوي للانخراط في صفوف المجاهدين في العراق، كما ساهم في تسلُّلهم إلى سوريا والقتال في صفوف جبهة النصرة ولواء جند الشام، من خلال استخدامه منبر مسجد حمزة. تشابَهَ دوره مع الشيخ العامي (لا صفة علمية له)، حسام الصباغ، الذي التقى سابقاً بأيمن الظواهري وجنّد شبّاناً طرابلسيين في العراق، ثم عاد إلى طرابلس وتنامى دوره التنسيقي مع ألوية سلفية في حمص والقلمون.
أما الغزاوي، فتأثيره لا يتجاوز محيط مسجده النور (محلة البحصاص)، وقد تعرّفنا إليه من وسائط التواصل الاجتماعي. له جسم بطيء الحركة ولسان كثير الكلام. هذا ما تخبره صوره وشرائط الفيديو. لكنّ خطبه تحكي أكثر عنه. هي كافية لتدلّنا إلى التملُّق الذي فيه. والمتملّق تعني في لسان العرب: «المتذلّل». صفة تختصر خطبته الأخيرة. وقف متملّقاً زعيم تيار المستقبل، الأضعف طرابلسياً في السياسة والخدمات والشعبية. قال الشيخ بما يشبه الفتوى، أنّ من يقف في وجه سعد الحريري كأنه وقف في وجه الدين، معتبراً ثوّار المدينة زعران ضد الإسلام. وهو يقوم بذلك بما يشبه تكفير الثائرين كما سبق لمفتي سوريا أن أجاز لبشار الأسد قتل الثوار لأنهم ضد الدين والدولة.
لموقف الغزاوي، على هامشيّته، دلالات عميقة. فهي من المرّات النادرة التي يُسجَّل فيها في السنوات الأخيرة، وبهذا الشكل المعلن، اعتراض شبّان على خطبة شيخ ومحاججته في المسجد. محاججة لا عنف فيها، بعكس التهجُّم اللفظي والجسماني الذي عمد إليه الغزاوي في الردّ على الشبّان.
للمسجد في مدينة محافِظة كطرابلس دورٌ تاريخيٌّ في مفاصلها. من مسجد التوبة خرج أوّل أمير لحركة التوحيد سعيد شعبان، وتمّت مبايعته لإمارة إسلامية إبان الحرب الأهلية. وفي مسجد التقوى، تعاظم دور الشيخ السلفي سالم الرافعي الذي أسّس مجموعات قتالية من شباب الزاهرية والقبة والميناء، في العام 2010. لكن لم يتجرّأ أيّ طرابلسي على دخول مسجد ومواجهة إمامه وعمامته كما حصل منذ يومَيْن. عملٌ بطوليّ يكسر السلطة التي مارستها العمامة السنّية في طرابلس على الجو العام، ويخالف رأياً تقليدياً في تقديس المكان وإمامه. تحوّل المسجد إلى محطة اعتراض سلمي. ولولا هذه الثورة لما استطاع شاب طرابلسي أن يفتح فمه ضد مشايخ التحريض والذمّية الذين دفعوا بكثير من شباب المدينة إلى التهلكة واستخدموهم وقوداً بيد الزعامات والأفكار، لحروبهم وحروب الآخرين.
لقد علّمت الثورة الناس، إذاً، الاحتجاج والرفض ونبذ التحريض. علّمتهم الانتفاض لا على السلطة الزمنية وحسب، بل على السلطة الدينية أيضاً، خارج رمزيّتها وحساسيّتها. هتف هؤلاء بوجه الشيخ الذي ما زال يحلم بمنصب الإفتاء، إنّه أداة لدى سلطان جائر. للمرّة الأولى، تقتحم الثورة اللبنانية المسجد ولا تخرج منه. فما رأي أدونيس بنا؟