تعليق ثورة تشرين
طارق أبي سمرا

بيروت مدينتي ومُهادَنة الوضع القائم

22 تشرين الثاني 2019

ليست هفوةً زيارةُ وفدٍ مِن بيروت مدينتي قائد الجيش. إذ مهما كانت الدوافع، وأيّاً كانت التبريرات، فإنّ هذه الزيارة أبلغُ تعبيرٍ عن جوهر هذه المُنظَّمة: العمل السياسي عن طريق اللاسياسة.

كثيرةٌ هي الدوافع المُحتمَلة لهذا اللقاء، ويستحيل فرزُ الحقيقيّ منها عن المُتخيَّل. فقد يكون هدف الزيارة ما جاء في البيان التبريريّ والتنصُّليّ الأوّل، المكتوب بلغة خشبيّة تتغنّى بوحدة الجيش والشعب (ولعلّ «المقاومة» سقطت سهوًا)، أي مجرّد الطلب من العماد جوزيف عون عدم استخدام العنف لقمع المُتظاهرين. وإذا كان هذا هو الحال، فالسؤال المطروح يتعلّق بمصدر هذا الكمّ الهائل مِن السذاجة الذي أوهَمَ بيروت مدينتي، الضعيفةَ التمثيلِ الشعبيّ والنفوذِ السياسي، بأنّ في وسعها استعطاف قائد الجيش كي لا يرضخ لما قد يأمره به وزير الدفاع، أو رئيس الجمهورية، أو حزب الله، أو نبيه برّي، إلخ.

وقد يكون الهدف انتهازياً، أيّ فتح قنوات تواصل مع قيادة الجيش أملاً بمكاسب سياسية لاحقة، بعد انتصار الانتفاضة أو بعد هزيمتها. لا شكّ في أنّ الانتهازية وسيلةٌ مشروعة في العمل السياسي؛ لكن، ألم تَفْطُن بيروت مدينتي أنّها، بخروجها المؤقّت من الثورة وتحوُّلها حزباً يُمثّل نفسه فحسب طوال مدّة أداء واجب الزيارة للعسكر، باتت مِن الضعف بحيث لم تعد تملك شيئاً تُغري به الجيش أو تُساوِمه به، سوى كلامٍ لا ثقل له، ولا ريب في أنّ العماد أحسّ بخوائه.

ولعلّ الزيارة لا هدف لها، ولعلّها لم تحصل قط، أي أنّ وليد علمي اجتمع بقائد الجيش ممثِّلا نفسه حصراً، فلا علاقة، تالياً، لـبيروت مدينتي بكل هذه الفضيحة، ولكنّها، بالرغم من ذلك، أُحْرِجَت ووجدت نفسها مُرغمةً، في بيانها الأوّل، على تبنّي فعلة ابنها الضّال بعد فشل مُحاولة التَّستُّر عليها، علماً أنّ ما يُقْدِم عليه عموماً حزبٌ أو تنظيمٌ سياسي يواجه مثل هذه الظروف، هو فصل الابن فَوْر ارتكابه المعصية، أو أقلّه إحالته إلى مجلس تأديبيّ ما.

في البيان التبريري الثاني، والذي كذَّبت فيه بيروت مدينتي ما كانت هي نفسها قد صرَّحت به في بيانها التبريري الأوّل، اعتُمِدَ التعليلُ الذي يقول بأنّ الزيارة لم تحصل، أيّ أنها لا تُمثِّل بيروت مدينتي، وأُرفِق التعليل هذا باعتذار (وقد حُذِف خبر الزيارة من موقع الجيش على الطريقة الستالينية).

لكنّ كلاماً كهذا، ولو لحقه طردُ العنصرِ غير المنضبط أو استقالته، يعجز عن محو حصول زيارةٍ لم تتبرأ منها المنظمة إلّا مُرغمةً. ذلك أنّ ما حصل، أكان سببه سذاجةً، أمّ جهلاً بموازين القوى، أم عدم انضباط عضوٍ أو حفنة من الأعضاء لأن المُنظّمة تجهل كيفية التعامل مع حالات كهذه أو لم تضع آلياتٍ لذلك... ما حصل مردّه إلى أنّ بيروت مدينتي (وسواها من مجموعات المجتمع المدني) في حوزتها مُتخصِّصين في شتّى الحقول والمجالات باستثناء السياسة (وليس المقصود هنا ذاك التخصّص الأكاديمي المُسمّى علوماً سياسية). باختصار، إنّ بيروت مدينتي تُريد الخوض في السياسة من خلال تغييب الفكر والقَوْل السياسيَّين. والبُرهان على ذلك بسيطٌ، إذ يكمن في استحالة الإجابة عن سؤالَيْن بديهيَّيْن: ما هي الهويّة السياسية لـبيروت مدينتي؟ وهل هي منظّمة ذات ميولٍ يساريّة مُعتدلة، أم يمينيّة مُعتدلة؟

ما تفتقر إليه بيروت مدينتي هو– فلنَكْتُبْ هنا تلك المُفْرَدة المكروهة– أيديولوجيا. وفي الحيِّز السياسي، فإنّ غياب الأيديولوجيا لدى منظّمة سياسيّة لا يعني سوى شيء واحد: مُهادنة الوضع القائم، أي اقتصار الفعل السياسي على محاولة الإصلاح. وحتّى في الانتفاضة الحاليّة، لا تزال بيروت مدينتي مُتمسّكة بطروحات إصلاحية إذ تعجز عن تخيُّل أيّ إمكانية لتغييرٍ جذري. ليس غريباً، إذاً، أنّ بديلَها عن النظام الحاليّ نظامٌ مماثلٌ له فيما ما عدا تكنوقراطيّتُه ونزاهتُه.

ومُهادنة الوضع القائم هي النهج الذي اتبعته بيروت مدينتي في المراحل الثلاث مِن تعاملها مع فضيحة الزيارة العسكرية. حصلت الزيارة كأنّما بفعلٍ إلهي، فحدست المُنظمّة أنّها معيبة؛ وبما أن أحداً لم يعلم بحصولها باستثناء أسعد أبو خليل، حاولت التستُّر على الأمر. لكن، بعد يومَيْن، انتشر الخبر على فيسبوك، فتوهَّمت المُنظمة أنّ في وسعها إسكاتُ الممتعضين ببيانٍ تنصّلي رديء، بَيْد أنّ ذلك لم يفعل سوى تأجيج الغضب. حينئذٍ، شعرت المنظّمة أن الوقت حان للتنصّل بأسلوب جديد هو جلد النفس، فجلدت نفسها واعتذرت.

لكنّ الاعتذار لا يُغيِّر شيئاً، إذ ليس أمام بيروت مدينتي سوى خيارَين: إما أن تتسيَّس وتُحدِّد هويّتها السياسية، وإما أن تستمرّ في عملها السياسي المُغيِّب للسياسة، ونتيجة ذلك هي تلاشي المُنظّمة شيئاً فشيئاً.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
فكشن

الدني بتهزّ، ما بتوقاع

عمر ليزا
37 شهيداً في عدوان يوم الثلاثاء 5 تشرين الثاني 2024
بري: المفاوضات في ملعب إسرائيل
9 غارات تستهدف الضاحية الجنوبية
تخوّف من تفخيخ جيش الاحتلال مستشفى ميس الجبل الحكومي