قرأت على إحدى اليافطات المرفوعة في بيروت سؤال: بابا فين؟ بي الكل، الرجل الذي بنى عهده على هذه الفكرة الذكورية الأبوية، يُسأل اليوم أين هو الأب في ظلّ الحرمان والجوع الذي يعانيه أولاده؟ أين هو فيما «أولاده» في الشارع؟
تشكّل الأبوية ركناً أساسياً للنظام الطائفي والسياسي في لبنان. فمنذ تأسيس لبنان الكبير في العام 1920 ثمّ استقلاله عن الانتداب الفرنسي، وخلال كل محطة من تاريخه الحديث، بني وتطوّر النظام اللبناني على أسس تركيبة ذكورية مؤلّفة من أب قائد للوطن وعائلة تكوِّن هذا الوطن. في السنوات الثلاث الماضية، أعاد هذا العهد صياغة هذه التركيبة، وبنى على أسسها ذكوريته القمعية التي نفحت نفساً جديداً للطغيان المتجسّد بالمحاكم الشرعية والقرارات الدينية وقمع الحريات السياسية والفردية.
لكن نحن اليوم أمام شعب قلب بثورته السحر على الساحر. ها هم الناس يتساءلون، لا بل يطالبون، بحضور بي الكلّ ومثوله أمامهم. وقفت احدى المتظاهرات تتساءل على شاشات الإعلام: وينو بينا؟، وهل يرضى الأب بأن ينام أطفاله جياعاً؟ أليس الأب مؤتمناً على سلامة أطفاله، وهو يتحمّل مسؤولية عافية عائلته؟ هذا العهد الذي علمنا مراراً أنّ من واجبنا احترام هذا الأب وإطاعة أمره، وأخضعنا مراراً لتوبيخ هذا الأب ولعقابه أحياناً عندما كنا أولاداً مشاغبين، هو اليوم مَن يحاسَب من قبل الناس على تقصيره، وهو يفقد شرعيّته يوماً بعد يوم كون الناس قد حكموا عليه بأنه أب غير صالح.
وإن كان الكثيرون في الشارع اليوم يتساءلون وين بي الكلّ في قلبٍ لمعادلة العهد، فإن الأكثرية تنادي مَنَّك بي الكلّ معبِّرةً عن رفضٍ مطلَق لهذه المعادلة. هذه أكثرية ناتجة عن الثورة، ولكنها أكثرية تدين بشعاراتها ووجودها لكل الناشطات والناشطين الذين رفضوا هذا النظام الأبوي منذ بدايته ووقفوا بوجهه. فهؤلاء الذين تحدّوا الذكورية على حساب سلامتهم وحياتهم مراراً، يصوغون اليوم شكل هذه الثورة بخلق مساحات في الشارع لطعن الذكورية على اشكالها. هذه المساحات تشكل اليوم ملاذاً في الشارع للمطالبة بحقوق الإنسان كافةً، من حقوق نساء، ولاجئين، ومثليين، ومبعدين.
صيحات هيلا هيلا هو بحدّ ذاتها ثورة على التحكّم الأخلاقي الذي تفرضه الأبوية، وهي عصيان على احتكار البذاءة من قبل نظام حدّد أطر الأخلاق والقيم العائلية على مقياس العائلة التي تصوِّرها. البعض في الشارع صرّح برفضه للبذاءة التي يوجّهها الشعب للحكم، ولكن لربما عجز هذا البعض عن رؤية القوة الكامنة في فعل شتم أعراض الأب والصهر والعائلة بمشهد فرويديّ مدهش شكّل حالة تحرُّر جماعية من هذه العائلة المفروضة فرضاً.
والجميل أنّ سقوط أبويّة هذا العهد في الشارع قابله رفضٌ مطلق للذكورية في التعبير عن سقوطه. فها إن النسويات في الشارع يثرن على حصر الشتائم بأجساد النساء، ويبتكرن هيلا هيلا هو تشتم باسيل مباشرةً وتشمل مَن تحوّل في هذه الصيحة إلى مجرّد عمٍّ لصهره. اختَرْ واختاري الصيحة الملائمة، فمع كلّ هيلا هيلا هو، يسقط هذا النظام الأبوي.