يمط الرصاص في أجساد المدينة، المفخّخة بالحزن القديم.
أسوارها الخارجة أتوها من كل مكان، بعد أن اختفت أسوارها القديمة وبواباتها الإثنتا عشرة، من باب الحديد وباب الذهب وباب التبانة وباب المهاترة. فصار للمدينة أسوار من لحم ودم. تدخلها الرصاصات والهراوات. يدخلها الدمع، النازل من العيون. والدم الخارج من الجلود المحزونة. والعرق المتصبب من مساماتها الحانقة.
تسقط بعض هذه الأجساد فيتحلّل في أسفلتها الدم المتخثر والألم الذي نزّ منها. ألم منخور بالحرمان والقمع المزمنين، لسلطة لبنانية لا تنتمي المدينة اليها. أرغمت عنوةً، وأدخلت في عقدها الإجتماعي بعصي وسلاح الإنتداب وعسكره. يومها كانت المدينة بأجساد كأجساد أولادها اليوم، ملأى بالنار.
ستتجمع أجساد المدينة، المفخخة بالحزن القديم كلها في ساحتها الأولى، التي عرفها العالم، بكلمة الله الذي لم يتحرك يوماً، ولم يخرج سحرته من تحت تمثاله ذاك. ستخرج أجسادها من وسطياتها. أجساد ستمط بموتها الحي، تحت جلد المدينة، وبيوتها وحاراتها لتصل الى حارات القتلى.
كل شيء رخص في المدينة لطبقة واحدة، حيتان مالها وتجارها وإسلامييها الذين اشتروا شققاً في الضم والفرز وشارع رياض الصلح والمعرض وصولاً الى سنترال المينا. واشتروا لأولادهم «سيارات مفيمّة»، مع رخصة سلاح. وكل شيء حرم عن طبقة سُحقت تحت حاجاتها الأولى. تحت رغبة العيش، لأن لا عيش آخر في زمن الموت والجوع.
ستنمو أجساد المدينة، المفخخة بالحزن القديم، تلك الأجساد التي تسقط في ساحة عبد الحميد كرامي مجازاً وموتاً، ستنمو يوماً ما في أفواه أطفال قادمين لا محالة، بأجساد متفجرة. سيقولون أنه انفجار اجتماعي، اقتصادي، أمني. سيطلقون كل الأحكام والمسميات على أجساد الأطفال الحليبية، التي لن ينزّ منها سوى الغضب.
غضب اليوم لن يكون كالغضب القادم من الأيام. غضب أسود، لأجساد لن تعرف حدوداً لحزنها وشدته ولا لتاريخ أهلها المكتوم، ولا لحرمانها الطاغي، ولا لقمعها الذي يحاسبها على لقمة الكعكة بسماق، او على الناشف. كما أكلوا مراراً «الموسى ابو سبع طقات» في حلوقهم. حين أطعمها لهم السياسيون وسلفيون قادمون بأموال الوهابية.
في أجساد المدينة، المفخخة بالحزن القديم.
منذ أن عُزلت، وأُقصيت، وهُمّشت، وضُرب ثوارها. منذ أن انهار حيها المحاذي للنهر. منذ أن صار طوفان «أبو علي» مجازاً لطوفانها. منذ أن خرجت من أحيائها المطرزة بعمارة المماليك الذين أخرجوها من ثغرها البحري، وتوسعوا بها، وأنشأوا أسواقها. فتفرعت روائح الزهر والبهارات في سوق العطارين، وتلونت بالأصباغ في سوق الدباغة.
منذ تلك المحطات المتتالية، تتجهز أجساد المدينة، المفخخة بالحزن القديم، لعصيانها.
تتجهز أجسادها لتكون حامية وأسواراً. تتجهز أجسادها الموازية، للأجساد الفتية. تلك التي تحيط بها وبحرائقها التي تندلع على الشاشات وبالحجارة التي تسقط في أياديهم وأظافرهم. هناك أجساد للمدينة، بصرية، لن يزيلها التاريخ. ولن تنساها العدسات، ولن تمحوها لحظة اليوم. مهما حاول إعلام السلطة أن يشيطنها، ومهما فعل ناشطو السوشيل ميديا بتركيب إسقاطاتهم الخوارزمية عليها وعلى هندسات فقرها.
هناك جسد للمدينة مات، جسد آخر ينمو، وأجساد بصرية، كأنها في متحف للذاكرة. سنأخذها معنا الى غضبنا الأكبر. يومها، لن يقف أحد في وجه انفجار أجساد المدينة، المفخخة بالحزن القديم.