تشييع سحرٍ عمره ثلاثة عقود
لم يكن تشييع رجل مهمّ أو حتى قائد سياسي تاريخي. ولم يكن تشييع زعيم طائفة كالذين شهدناهم في الماضي. كان هذا واضحًا منذ الدقائق الأولى للتشييع الجماعي. فما كان يودّعه الجموع أكبر من شخص أو حزب أو فكرة، كان علاقة مع العالم اتّسمت بالسحر حتى لحظة ظهور النعش.
لأكثرية من كان موجودًا في هذا النهار البارد، لم يكن «السيّد» إلا صورة، نادرًا ما ظهرت إلى العلن، لكنّها سحرت حياة جماعة بأكملها. «سحرت» بمعنى أنّها قدّمت لهذه الجماعة رواية عن ذاتها كوّنتها سياسيًا ووحّدتها وجوديًا. و«سحرت» بمعنى أنّها أطفت على علاقة هذه الجماعة مع السياسة بعدًا «أخرويًا»، لم تكن تتشاركه مع باقي الطوائف. فشهداء تلك الطوائف كانوا رجالاً تحوّلوا إلى أساطير بعد اغتيالهم. أمّا السيّد، فكان أسطورة، عادت رجلًا لحظة اغتيالها.
تحوّلت الصورة إلى جسد في نعش، سار بين جماعته للمرة الأخيرة، قبل أن يذوب بينهم وفيهم. في لحظات كهذه، تصبح الجماعات كالجسم الواحد، تتيتّم سويًا وتبكي سويًا وتودّع سويًا. ودّعت الجماعة ساحرها، وودّعت معه آخر مرة ستتحرّك فيها كهذا الجسم الواحد. فبعد هذا اليوم، لم يعد هناك من يوحّد الجماعة.
في هذا النهار الطويل والبارد، كانت الجماعة تودّع السحر، وتعاين عالمًا جديدًا، منزوعاً منه السحر.
تشييع تحت الاحتلال
لم تكن قساوة هذا النهار نتيجة البرد وحسب. فعالم منزوع من السحر هو عالم قاسٍ، لا يرحم بواقعيته. ولم يرحم المشيعين الذين ساروا وراء نعشهم في بلد عاد إليه الاحتلال. أصرّ المحتلّ أن يذكّر الجميع بأنّه ما زال يسيطر، من فوق، على الجموع تحت. عادت الدرونز، بين الحين والآخر، لتذكّر بصوتها الرنّان أنّ السماء الصافية ليست خالية من الخطر. حلّقت الطائرات على علوّ منخفض، ويقال إنّها الطائرات ذاتها التي اغتالت السيّد. أما في باقي البلد، فشُنّت غارات، أكثر من 15 غارة. يوم عادي تحت الاحتلال، ولا حرمة في هذا اليوم، حسب المحتل.
لا يواجه هذا الطيران إلّا الصوت، صوت مسجّل للسيّد أو عفويّ للجموع. لكنّ الصوت عاجز هذه المرة عن مقاومة العدو، مثله مثل مرافق السيّد الذي غمر النعش ليحميه مرة أخيرة من الطائرات. وفي الخلفية، صورة السيّدَيْن، يبتسمان وهما ينظران إلى السماء، تلك السماء التي باتت عنواناً للقتل من فوق.
هيهات منّا الذلّة؟
صاحت الجموع «هيهات منّا الذلّة»، كما كانت تردّد بعد انتصارات الماضي. لكنّ وطأة هذا الشعار جاءت مختلفةً هذه المرّة، أقرب إلى تساؤل، أو حتى ترجٍّ. فمن الصعب تجاهل طيف الهزيمة في هذا النهار البارد. والهزيمة لم تأتِ فقط من فوق، من الطائرات التي ذكّرت الجميع بأنّها باتت تحكم هنا. بل جاءت أيضًا من وراء الشاشة، من خطاب الأمين العام الجديد الذي، مهما حاول أن يستعين بصورة سلفه، لم يستطع أن يخبئ الهزيمة. فلم يكن خطاب هزيمة، كان خطاب مهزوم، كلماته مهترئة، جمله متهالكة، مقاطعه متفركشة. إنّه خطاب الواقع، نابع منه. ربّما كان في هذا التهالك صراحة نابعة من التماهي مع الواقع، من عدم القدرة على تجاهل هذا الواقع، كما كان السيّد يستطيع أن يفعل حتى أيامه الأخيرة. فالأمين العام الجديد ليس ساحرًا، بل أمين عام من هذا الواقع.
وطن نهائي لكل أبنائه
كان خطاب واقع مهزوم، لكنّه أيضاً خطاب العودة إلى الإجماع اللبناني، في انتظار الدولة. لم يجد الأمين العام الجديد إلّا التأكيد على جملة «وطن نهائي لكل أبنائه» ليحاول طمأنة الشركاء في الوطن، «دعاة السيادة» كما سماهن، بأن حزب الله تحوّل، هذا التحوّل الذي طال انتظاره عقوداً. فرغم العنفوان، كان الخطاب أقرب إلى الترجّي أيضًا، الترجي بأن يكون هذا الإجماع الوطني ليّناً كفاية لاستقبال الوافدين الجدُد ورواياتهم. فكأن الأمين العام الجديد كان يسأل عن المكان المتاح لهم في هذا الإجماع: أليس في كل ما حققناه منذ عقود ما يبهركم، ما يمكن ضمّه لهذا الإجماع؟ أعلينا التخلي عن كل شيء مقابل هذا الإجماع؟ ألا يبهركم أننا خرجنا من تحت الأنقاض، واستعدنا المبادرة، وأجبرنا إسرائيل إلى طلب وقف إطلاق النار؟ ألم يُفاجئكم انجاز الوفاق بانتخاب رئيس للجمهورية، وإسقاط دعاة الإقصاء، فكنّا جزءاً لا يتجزّأ نحن وحركة أمل في متن تركيبة البلد لقيادة البلد؟ هل هناك مكان لنا في هذا الإجماع الذي دُعينا للدخول فيه؟
ما من بطولات في العودة إلى الإجماع، ولا تنفع خطابات النصر. فهي عودة لليوميّ والطبيعيّ والمضجر، بعد عالم السحر. لكن لا ينفع أيضًا إذلال من يعود، وكأنّ الإجماع ملك مكوّن على حساب آخر. إسمه إجماع، وهو بالتالي مشترك ويتطلب أدبيات تختلف عما تعودنا عليه منذ سنوات تحت وطأة المواجهة والقتل.
طيّ صفحة الماضي
كان التشييع لحظة ولادة طائفة في هذا العالم البارد والمنزوع من السحر. فالطائفة لا تستقيم مع السحر، هي جسم متنوع ومتناقض ومتصارع، لا يتوحّد إلا بمخيّلة ممثليها أو بعنصرية خصومها أو بفعل ساحر استثنائي. رحل الساحر، وشيّعت الجماعة معه وحدتها لكي تعاين واقعها الجديد كطائفة، أو كجسم اجتماعي جديد، جسم حيّ لأنه منقسم. لكنّ ما دعّم هذه الوحدة لم يكن الساحر وحده، بل أيضًا نظرة الآخر، هذا الشريك الذي «يدعو» الطائفة إلى الإجماع الوطني، والذي- بعدائه لمشروع حزب الله- غالبًا ما وقع بالعنصرية تجاه جماعة بأكملها. فخلف ماكينة القتل والسيطرة التي مثّلها حزب الله، كان هناك جماعة وتحوّلات ثقافية واجتماعية وأناس. هؤلاء باقون بعد السيّد، والتشييع كان معموديّتهم كطائفة يتيمة.
الأيتام ليسوا مسؤولين عن جرائم آبائهم. هذا شرط العدالة والغفران. ولا طيّ لصفحة الماضي من دون التمسّك بهذا الفارق. ربّما لا يريد أحدٌ اليوم طيّ هذه الصفحة، بين من لم يقبل بعد أنّه لم يعد منتصرًا ومن لا يفهم أنّه لن ينتصر لأنّ خصمه هُزِم. لكن، في الحقيقة، لا مفرّ من هذا الفعل السياسي.