«أشرف الناس» وشؤونهم الخاصّة
ينتظر نوار الساحلي البتّ في مصيره السياسي. فبعد انتشار صور وفيديوهات من عرس ابنته على مواقع التواصل الإجتماعي، علّق النائب السابق عن الجنوب عضويته في حزب الله، واضعاً نفسه بتصرّف أي قرار يصدر عن قيادة الحزب. تأتي «فضيحة» الساحلي وابنته هالة بعد قضية نواف الموسوي وابنته غدير، حيث طلاقها من ابن مدير مكتب الوكيل الشرعي لآية الله علي خامنئي في لبنان أدّى بالموسوي إلى اقتحام مخفر والاعتداء على زوج ابنته السابق بعد خلاف طويل على الحضانة.
تُزعزِع هاتان القضيتان اللتان تحوّلتا إلى مادة إعلامية دسمة بعد انتشارهما على وسائل التواصل الاجتماعي، الصورة النمطية عن «بيئة» الحزب المنضبطة ثقافياً والملتزمة دينياً والمحافظة اجتماعياً.
ففي الحالتين، يظهر كل من الموسوي والساحلي كآباء لبنات خرجن، كلّ على طريقتها، عن قالب اجتماعي سائد وثابت. وفي الحالتين، دفع الموسوي والساحلي ثمن خياراتهما الشخصية، الأول دفاعا عن ابنته المطلّقة في وجه ظلم يمارس بحقّها، والثاني احتفالا بزواج ابنته في عرسٍ فاخر ورنّان رُفعت فيه كؤوس التيكيلا والشامبانيا. وفي الحالتين، خرج نائبان عن الـ«سكريبت» الحزبي الرصين الملتزم، لتُظهِر علاقة الأب بابنته التناقض الحادّ بين عقيدة الحزب الدينية وخطابه الرسمي من جهة، وواقع بيئته المعاش من جهة أخرى.
أربك هذا التناقض الحزب، وأفرح خصومه الذين يجدون في هذه الهفوات مادّةً يستعملونها في معرض هجومهم السياسيّ عليه. ولكن، بعيداً عن الإرباك والشماتة، قد يدفعنا التمعّن في هذه القضايا «الهامشية» إلى استنتاجات أخرى من شأنها أن تزعزع فكرة «البيئة» أحادية اللون والهوى - المنضبطة أخلاقياً والمتجانسة ثقافياً - التي يعمل الحزب وخصومه على ترسيخها في مخيلتنا الجماعية، والتي تساهم في تنميط شريحة واسعة من المجتمع الشيعي اليوم، هذه الشريحة التي أرادها الأمين العام «أشرفَ الناس».
العبرة في التبريرات
ملفتة هي صورة الأب التي يظهر من خلالها الساحلي كرجل لا سلطة فعلية له على ابنته وخياراتها. هالة إبنة الساحلي من زواج سابق. وعرسها أحيته عائلة والدتها، أي طليقته. هكذا جاءت بعض التبريرات، لتقول إنّ الساحلي لا دخل له في ما حصل: هيدي بنت إمها. هو ما خصّه. هي صورة ملفتة لأنّها تتناقض مع الصورة النمطية لرجال المقاومة وسلطتهم الأخلاقية التي يجسّدها الأمين العام للحزب كأب المقاومة الروحي.
كما تتناقض هذه الصورة مع الطلاق الذي اعتبره نصر الله دلالةً على انحلال أخلاقي وإشارة لتفكّك أسريّ. ففي خطابٍ شهيرٍ ألقاه في مناسبة يوم المرأة المسلمة العام 2017، عبّر عن قلقه حيالَ ارتفاع معدّلات الطلاق في لبنان والمجتمعات العربيّة والإسلاميّة عموماً، قائلاً لم تكن أمّهاتنا وجدّاتنا بهذا الشكل. كانت النساء أكثر صبراً. أمّا اليوم، فالمرأة تعود إلى والدَيها شاكيةً زوجَها، وسرعان ما يشرعون في إجراءات الطلاق. يبقى الطلاق إذن أبغض الحلال. انحلال أخلاقي؟ تفكّك أسري؟ ها هي إبنة ممثّل «البيئة»، الخارجة عنها بعد طلاق والديها، لا تكترث للشرع وتحتسي الكحول علناً. ووالدها، العضو السابق في كتلة «الوفاء للمقاومة»، يحضر عرسها، نزولاً عند مشيئتها، وهو الذي يعرف جيداً أن التيكيلا والمقاومة دونتي ميكس. كأنه يحاول أن يفصل بين معتقداتها الشخصية وعقيدة الحزب الذي ينتمي إليه، وبين أبوّته وموقعه السياسي. وكأنه لم يعِ أن خيارات ابنته - حتى وإن كانت من زواج سابق - لها تداعيات سياسية عليه وعلى حزبه.
كان قد تعلّم الموسوي الدرس قبله. في تصريحٍ له لوسائل إعلام محلية بعد حادثة التعدّي على صهره السابق، فسّر أنه في تصرّفه هذا تحمّل مسؤولياته كأب بالدرجة الأولى، موضحاً: أنا عندي الأولوية أن أكون أباً على أن أكون نائباً. فهم الموسوي المشرّع أن لا قانون يحمي ابنته من تنكيل طليقها، فلجأ الموسوي الأب إلى العنف لكي يحميها. انحلال أخلاقي؟ تفكّك أسري؟ في تصدّيه المباشر للعنف الذكوري والأبوي الذي تواجهه ابنته، يعلّق الموسوي عضويته في الحزب: هاي الخطوة أنا أخدتها لحتى أنا وكون عم بحمي بناتي ما يكون في أي تبعات أو آثار ضارة على الحزب أو على المقاومة. لحتى قول انه أنا بتحمل مسؤولية كل ما جرى بصورة شخصية. وكأنه فهم أن موقفه العلني مع ابنته وضد طليقها إبن الشيخ في مواجهة المحاكم الشرعية التي تنكّل بالنساء لا يتجانس مع أولويات الحزب. وكأنه استوعب أن الدفاع المسلح عن ابنته في وجه ظلمٍ عائلي لا يسمو إلى فعل مقاومة.
أبوان في وجه أب
إذا اعتبرنا أنّ نواب الحزب صورة عنه، فما الذي نراه في الصورة؟
يمكننا أن نرى في خيارات وعلاقات الموسوي والساحلي الشخصية نموذجاً عن أبوّةٍ غير متسلّطة، أو بالحدّ الأدنى مراعية لإرادة الإبنة وخياراتها. هو نموذج لا يتجانس مع النظام الأخلاقي الأبوي للحزب، كما أنه يكسر الكليشيهات والصور النمطية عن «بيئته» لدى خصومه. اجتماعياً، استثمر الحزب في صورة «البيئة» الملتزمة دينياً والمحافظة أخلاقياً كالبيئة الحاضنة للمقاومة، مُحكِماً بذلك هيمنته الثقافية على هذه البيئة التي يحكم بإسمها. في هذه الصورة، لا مكان للتنوّع والاختلاف. فتأتي الفيديوهات المسرّبة لبنات مسؤولين حزبيين لتزعزع الكادر ومعه صورة المقاومة لدى جمهورها وخصومها. فمع تغيّر الحقل الإعلامي، لم يعد حزب الله اليوم قادراً على السيطرة المطلقة على المشهد.
لكنّ ما دفع ثمنه هذان الأبوان، رغم كل محاولات الحزب للسيطرة على الصورة، هو التحوّلات في بيئة الحزب الاجتماعية، خصوصاً في ما يخصّ العلاقات بين النساء والرجال ومؤسسة الزواج. هذا التناقض الظاهر بين الواجبات العائلية والمسؤوليات الحزبية، والذي جسّده النائبان، هو مؤشّر عن أزمةٍ ما في هيمنة الحزب العقائدية في ظلّ تغييرات جذرية يشهدها مجتمعنا، لا سيّما في ما يخصّ الأدوار الجندرية والعلاقات العائلية التي ما زالت تحكمها قوانين أحوال شخصية تمييزية بالية.
فالـ«بيئة» ليست خارج الزمن، رغم محاولات آبائها المتعدّدين لتثبيتها، وليست عصيّةً على التغيير. هي حيّة، برجالها ونسائها، مهما حاولنا قتلها داخل الصورة. فحتى أشرف الناس قد يشربون التيكيلا.