مراجعة سينما
روي ديب

أيّام بيروت

17 حزيران 2022

أيّام بيروت السينمائيّة

في اليوم الثاني من مهرجان «أيام بيروت السينمائية»، عرضتُ فيلمي القصير «نفس»، بعدما منعني نهاد المشنوق، وزير الداخلية السابق، ومن خلفه عسكر الأمن العام، من عرض فيلمي الطويل «بيت البحر» في الدورة السابقة من المهرجان. 
عدت بفيلم قصير، ذاتيّ، ومليء بالمسبّات للعرصات. عدت إلى شاشة أيام بيروت السينمائية، المهرجان الذي أعتبره من أهمّ الأعمال الجماعية التي ساهمت في تشكيل هوية بيروت، هويتها الكاملة وليس الثقافية وحسب. 

أتذكّر نموّ علاقتي ببيروت من خلال أيّامها السينمائية، من خلال النقاشات على أدراج صالاتها حول السينما، من خلال الأفلام التي كانت مشاهدتها تتواصل، واحدةً تلو الأخرى. أتذكر تهافت المخرجين العرب لعرض أفلامهم في بيروت مقابل أجور زهيدة مقارنةً بما كان يُفرَش تحت أقدامهم في دُبَي والدوحة وغيرها من المهرجانات العربية الجديدة ذات الميزانيات الخيالية. 

هنا في بيروت، كانت الأيام السينمائية سياسيّة بامتياز. كانت تكريساً لهويّة شاركت النشاطات الثقافية في صنعها. كانت بيروت التي نحبّ. 

توقّف المهرجان لسنوات ثلاث. وعاد. وتلك النسخة بالنسبة لي ليست ما بعد كوفيد، وإنما ما بعد 17 تشرين، لا بل ضمن استمرارية 17 تشرين. فمن غير الممكن أن تستعيد بيروت أيامها السينمائية من خارج نضال ومأساة سكان المدينة.
انطلقت الدورة الحادية عشرة للمهرجان في سينما أسواق سوليدير، لأن سينما متروبوليس أغلقت أبوابها. هنا في سوليدير، في الأزقّة المجاورة، هربنا من الغاز المسيل للدموع ومن الرصاص المطاطيّ والحيّ. هنا فقدَ ثوّارٌ أعيَنهم، وملأ الخردق صدور آخرين. وهنا سألني شبان تائهون: من أين نهرب؟ شبان كانوا يزورون سوليدير للمرّة الأولى. كانوا تائهين في أزقّتها. تائهين في عاصمتهم، لأنّها لم تكن عاصمتهم. 

لكنني سعيد أن أكون هنا، أن نكون هنا، ونعرض أفلامنا، ونناقش ونفرح ونغضب ونشعر ببعضنا بعضاً، ونستعيد جزءًا مسلوباً من المدينة، من عاصمتنا. 

انطلقت التظاهرة السينمائية بحضور مدعوّين لمشاهدة فيلم «فرحة»، للمخرجة دارين سلام (الأردن)، وهو فيلم تاريخيّ عن النكبة. قد يكون خيارًا مستغربًا من منظّمي المهرجان، أي افتتاحه أول مهرجان بعد الثورة بفيلم عن النكبة، ولكن لا بأس. فاليوم الثاني كان بمثابة افتتاح شعبي للمهرجان، من خلال ليلة الأفلام القصيرة التي صنعتها مخرجات ومخرجون شابات لبنانيات وعرب. مخرجات سوف يرسمنَ هوية السينما اللبنانية والعربية قريباً. أفلام تمّت صناعتها خلال السنوات الأخيرة، أفلام تشكّل بتنوّعها وصعوبةِ إنتاجها ورواياتها الشخصية والجماعية، أيامَ بيروت السينمائية المستقبلية. أفلام عن الحاضر في بيروت وتخبّط الأحاسيس فيها، وعن اللجوء السوري في لبنان، وعن العيش في سوريا، وعن التحرّش الجنسيّ والتمييز ضد المرأة في مصر، وعن أحلام وتساؤلات جيل جديد. قابل هذا الافتتاح في «دار النمر» نقاش حول ذاكرة بيروت مع أعمال جوسلين صعب وبرهان علوية، بحضور فواز طرابلسي وأحمد بيضون ومحمد سويد وهادي زكاك وإليان الراهب.


أيّام بيروت (غير) السينمائيّة

تحاول تلك الأيام استعادة سينمائيتها، كما نحاول جميعاً استعادة مدينتنا، واستعادة المعنى في تفاصيل حياتنا. أما عن الأيام غير السينمائية التي نعيشها، فلا بدّ للنقد أن يكون أقسى، بقساوة ما نعيش:

سقطت الجمهورية التي نعيش فيها سقوطاً أخيراً منذ أيام حين انتُخب بأكثرية نيابية علي حسن خليل وغازي زعيتر لدخول لجنة الإدارة والعدل. فنحن نعيش في جمهورية ساقطة. قد يكون التغيير والعدل آتياً فيها يوماً ما، لكن للأسف ليس قريباً. 

قد يبدو هذا الكلام تشاؤميّاً. لكنني لا أهدف إلى بثّ الإحباط، بل بالعكس. يستند تشاؤمي على قراءة واقعية لحقيقة الأمر، ويدفعني إلى البحث عن دور فعليّ وليس عن أوهام لن تتحقّق قريبًا. إنّني أؤمن أنّه مع سقوط الجمهورية ومع غياب الدولة القويّة، هنالك مساحة أوسع للخلق الحرّ الذي قد يزعج السلطة الحاكمة. نحن اليوم نعيش في دولة، من جهة يتحكم فيها سلاح ميليشيا، ومن جهة أخرى أصبح صاحب موتور الحيّ فيها أقوى منها. إنّ ولائي وحقوقي وواجباتي تجاه صاحب الموتور، اليوم، أمتن من تلك الواجبات تجاه الدولة. 

لكن غياب وضعف هذه الدولة يفتحان مساحة أوسع للحرتقة. فلنحرتق!

نحن الفنانين علينا اليوم مسؤولية المشاركة في إعادة تعريف هوية هذا الفنّ الذي نصنعه، وهوية هذه المدينة، وهوية هذا المجتمع الذي نعيش فيه، وهوية هذا الوطن. 
اخترتُ فِعل «المشاركة» دون غيره، كي لا ندّعي، نحن الفنانات والعاملات في القطاع الثقافي، أننا قادرون على الإقدام على فعل أحاديّ غير مبنيّ على التشاركية مع الآخرين. ولا أعني هنا أعمالاً فنيّة مشتركة، وإنما اليقين بأنّ عملي الفنّي جزء من نضال أوسع أتشارك فيه مع آخرين وبأساليب متعدّدة ومتنوّعة.

والحرتقة فنّ. الحرتقة تسخر، وتسخّف، وتفكّك، وتهدم تلك الروايات والأساطير المشكّلة لهذه الجمهورية الزائفة. الحرتقة تمهّد الطريق أمام إعادة بناء روايات جديدة لجمهورية جديدة. الحرتقة الثقافية باستطاعتها استفزاز مساحة خلّاقة لنواة أفكار، نتشارك ونتناقش لتطويرها سويّةً في الفكر والممارسة. لا أؤمن أنّ الفنّان باستطاعته تغيير مجتمعه، ولكنّني أؤمن أنه قادر أن يسائل، ويشكّك، ويثير أحاسيسَ تساهم في تشكيل فكر متجدّد وثوريّ. هذا ما أسمّيه حرتقة. 

حرتقة، لأننا غير قادرين اليوم على هدم الهيكل، لا نملك تلك الأدوات، ولأننا حقيقةً منهكون، ولكن بإمكاننا، دوماً، الحرتقة وزعزعة الأساسات. فلنصنع أفلاماً لا يريد أحد أن يشاهدها. فلنروِ روايات لا يريد أحد أن يسمعها. فلنصنع سينما، ليس سينما ناشطيّة (بمعنى أكتيفيست)، وإنما سينما سياسية. فلنحرتق.

ولنتذكر دوماً أنهم مهما تجبّروا ومنعوا وظلموا، فإنهم زائلون، وتبقى أفلامنا وأعمالنا الفنيّة من بعدهم. وإن كانت أعمالنا  تبدو اليوم حرتقة، لكنّها في الغد، ستصبح جزءًا من هويتنا، سوف يُقرَأ عبرها. فلنحرتق.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد
مقتل باحث إسرائيلي كان يبحث عن «أرض إسرائيل» في جنوب لبنان
قتيل بصواريخ حزب الله على نهاريا 
 أعنف هجوم إسرائيلي على الأراضي السورية أكثر من 68 قتيلاً في غارات تدمُر