تنتفض نساء إيران اليوم، ومن خلفهنّ شباب مختلف المدن والنواحي على خلفية قتل شرطة «الأخلاق» للشابة مهسا أميني. كان الوضوح السمة الأساس لاحتجاجهنّ، خلعنَ حجابهنّ، حرقنَه وتابعنَ المطالبة بإسقاط الديكتاتور. قصصنَ شعرهنّ. رمينَ الحجارة. واجهنَ وصمدنَ ثم اعتُقِلنَ، ومنهنّ من قُتِلت. لم ينتظرنَ طويلاً قبل الوصول إلى السقف السياسي الأعلى: إسقاط خامنئي ونظامه الديني-العسكري.
الطريق إلى شعار «يسقط الديكتاتور»
لم تأتِ هذه التظاهرات من فراغ، ما يفسّر رفعها سريعًا للسقف السياسي.
منذ سنوات، أطلقت الناشطات الإيرانيات، وأبرزهنّ مسيح علي نجاد، حركة «الأربعاء الأبيض»، بحيث ترتدي النساء في إيران حجاباً أبيض كلّ يوم أربعاء للتعبير عن احتجاجهنّ على النظام، وذلك من دون إعطاء أجهزته الأمنية ذريعة لاعتقالهن. مع الوقت، تطوّرت هذه الحركة إلى مواجهات متفرقة مع رجال الدين والأمن. رفعت النساء أصواتهن. اعتقلت بعض الناشطات وصدرت أحكام قاسية بحقهن.
في هذا الوقت، لم يكن الشعب الإيراني في حالة ركود. منذ النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، ينتفض الإيرانيون كل حين.
- في العام 1999، انتفض الطلاب على خلفية انقلاب المرشد علي خامنئي والحرس الثوري على الرئيس المنتخب بأصوات الشباب محمد خاتمي، وتمّ قتل 4 متظاهرين واعتقال ما يقارب 1500 متظاهر.
- في العام 2009، خرجت تظاهرات واسعة رفضاً لما اعتبره المتظاهرون تزويراً للانتخابات لإيصال أحمدي نجاد إلى الرئاسة، وفي محصلة عملية القمع الواسعة التي استمرت أشهراً، قتل 100 متظاهر واعتقل ما يزيد على 4000 متظاهر.
- منذ العام 2017، تشهد إيران سلسلة من التظاهرات والإضرابات بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية، وانتهاكات حقوق الإنسان، وارتفاع الأسعار، وانقطاع الكهرباء والمياه. بمحصلة موجات التظاهرات المستمرة هذه، اعتُقِل وقُتِل المئات. وثّقت منظمة أمنستي قتل 321 متظاهراً بين 15 و19 تشرين الثاني 2019 واعتقال أكثر من 4000 على خلفية التظاهرات الرافضة لرفع أسعار الوقود.
على مدى السنوات الخمس الماضية تظاهر الإيرانيون لأسباب مختلفة، ورفعوا شعارات تراوحت بين الدعوة لإسقاط محافظ من هنا وتغيير مسؤول من هناك، وإسقاط النظام الديني والموت لرئيسي (الرئيس الحالي)، وصولاً إلى «لا غزة ولا لبنان ـ حياتي لإيران» والدعوة للانسحاب من سوريا. لكن مع الوقت، بات واضحًا أنّ هناك شعاراً واحداً يجمع بين كل هذه المطالب: يسقط الديكتاتور.
تظاهرات اليوم لم تأتِ من فراغ. هي حلقة إضافية في سلسلة تختمر من نهاية تسعينيات القرن الماضي مع فشل محاولات محمد خاتمي إصلاح النظام، وهو ما أقرّ به خاتمي نفسه في خطابه في جامعة طهران في كانون الأول 2004، في أواخر ولايته (1997ـ2005). تظاهرات اليوم حلقة إضافية في سلسلة تزداد وضوحاً وتنوّعاً ونضجاً على مدى سنوات، ويقابلها النظام بمزيد من العنف، خصوصاً عندما تخرج التظاهرات في الأرياف أو مناطق الأقليات العرقية (العرب أو الكرد).
أزمة النظام الإيراني
تكمن أهمية الموجة الأخيرة من التظاهرات، إلى جانب أنها تعبير صادق عن حاجة الإيرانيين للحرية، أنها تُوجّه ضربات قاسية لسردية سعى النظام وأدواته لتكريسها منذ صعود داعش، عبر تصوير نفسه كقوة إسلامية معتدلة. فتؤكد تظاهرات اليوم أن هذا النظام لا يختلف عن أي مشروع إسلامي ضيق الأفق يسعى لتشكيل المجتمع على صورة متخيّلة من دون أي اعتبار للحريات الفردية أو لقيمة الإنسان.
تأتي هذه الضربة لسردية النظام في وقت يعاني هذا النظام من أزمة على المستوى الاقتصادي، مع انسداد أفق التسوية الدبلوماسية المتمثلة بالاتفاق النووي. كما تأتي في لحظة ضعف إقليمية. فالداخل الإيراني بات مستباحًا من أجهزة الأمن الإسرائيلية من خلال سلسلة من الاغتيالات والعمليات الأمنية. أمّا في العراق، فتواجه أدوات النظام الإيراني هناك تحديات اقتصادية وتظاهرات شعبية تهدّد قدرتها على توفير الاستقرار السياسي المطلوب داخليا للعب الأدوار الإقليمية المطلوبة منها. كما تأتي في لحظة لم ينتج «الاستثمار» في الدم السوري لصالح إبقاء نظام بشار الأسد في الحكم النتائج الاقتصادية المطلوبة في ظل الإصرار الغربي على عدم تمويل إعادة الإعمار قبل الوصول إلى الحد الأدنى من التسوية السياسية.
والأهم من كل ما سبق، هو أن النظام على مقربة من ثاني مرحلة انتقالية بتاريخه، أي عند وفاة علي خامنئي. في المرحلة الانتقالية الأولى، بعد وفاة الخميني، لعب هاشمي رفسنجاني دور «العرّاب» عبر تبنّيه ترشيح علي خامنئي وتصويره كمرشح الخميني، من دون أي دليل. كان يفترض أن يلعب قاسم سليماني دور العرّاب في الانتقال الرسمي من الدولة الثيوقراطية إلى نموذج الدولة الدينية-العسكرية. لكنّ سليماني قُتِل في غارة أميركية. هل يوجد بديل له؟ هذا سؤال صعب ومعقّد. الأداء الإيراني في العراق لا يوحي بأن البديل، إسماعيل قاآني، استطاع ملء الفراغ عراقياً. لكنّ هذا لا يعني أن لا بديل في الداخل الإيراني. لا يمكن الجزم إلا بعد وفاة خامنئي.
التظاهرات في إيران تتصاعد؛ لكنّ النظام لم يلعب بعد كل أوراقه. قدرته على القمع واسعة. تجاربه في القمع متعددة. قد يكون النظام متحفّظاً بعض الشيء حالياً، بما أن إبراهيم رئيسي في نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو المسؤول والمشرف على عمليات الإعدام الجماعي عام 1988 التي وصفتها هيومن رايتس ووتش بأنها «ترقى إلى مستوى جرائم ضد الإنسانية وهي من أبشع الجرائم في القانون الدولي»، واعتبرها الراحل آية الله حسين علي منتظري، النائب السابق للمرشد الأعلى للثورة، «أكبر جريمة في تاريخ الجمهورية الإسلامية، سيديننا التاريخ بسببها». لا يريد النظام الكثير من الدماء في الشارع، بينما يقوم رئيسي بجولة علاقات عامة في نيويورك، استهلها بلقاء الرئيس الفرنسي.
لكن الأمور قد تختلف بعد عودته إلى طهران في حال استمر زخم التظاهرات. هل يعني هذا أن النظام سيقمع التظاهرات بسهولة؟ لا يمكن الجزم بمسار الحركات الاجتماعية. هناك الكثير من العوامل التي لا يمكن التكهّن بها، من أبرزها: ما هي قدرة الشعب الإيراني على التحمّل؟ وما مدى تماسك النظام الإيراني ومنظومة القمع التابعة له؟
بغضّ النظر عن نتائج هذه الجولة من التظاهرات، فإن النظام يعاني من مشكلة فقدانه القدرة على إقناع الشعب بضرورة وجود النظام أو بقدرته على توفير مستقبل أفضل للإيرانيين، فبات بقاؤه مرهوناً بقدرته على القمع. وهذا ما يؤكّد على أن موجات التظاهر ستستمر وتزداد حدة، إلى أن تكسر منظومة القمع، أو يقوم النظام بإصلاحات حقيقية تعيد صياغة العقد الاجتماعي وتُعيد ثقة الناس بالنظام.