رغم عنف النظام وخطاباته، ظهرت السخرية كوسيلة لتحطيم أسطورة بيت الأسد، وخلقت مساحة لتحرّر خيال السوريات والسوريين وتحدّي سرديات النظام الكاذبة. ومع سقوط النظام وهروب بشار الأسد، شكّل «ألبوم صور العائلة»، الذي تركه خلفه في غفلة انشغاله بجمع الذهب والأموال التي سرقها من سوريا، مادة دسمة لسخرية الملايين منه. تناولت صفحات المنصات الاجتماعية الصور من زوايا مختلفة لفضح كذب خطاب النظام. لكن في الوقت ذاته، حملت بعض النكات عنفاً رمزياً ضد فئات مهمّشة، غالباً ما يطالها خطاب الكراهية.
لذا، كيف يمكن قراءة طرق التعبير الساخرة من الأسد وعائلته التي ملأت صفحات التواصل، مركّزةً على ألبوم الصور ضمن مفاهيم الذكورة السامة؟ وما الذي يعنيه تجريد بشار وعائلته من شكل محدّد للذكورة وذمّه ووصمه بصفات تحمل فكراً تمييزياً تجاه فئات أخرى لا تمتلك هذه الصفات؟ كيف يمكن أن نقرأ هذه الصورة ضمن رؤية تنتصر لحاجتنا لتحطيم الأساطير مع الحرص على عدم التجييش ضد فئات هشّة؟
ألبوم صور الطاغية
شكّلت السخرية إحدى وسائل مقاومة ورفض النظام، بدءاً من العام 2011 وانطلاق الثورة السورية. ظهر مع الثورة عدد من الصفحات الساخرة على وسائل التواصل الاجتماعي ورسمت ابتسامات على الكثير من الوجوه. وعادت العديد من هذه المنصات الساخرة للظهور مع سقوط النظام، ومنها صفحة الثورة الصينية ضد طاغية الصين والمحشش السّوري الالكتروني «سخرية حيادية اجتماعيّة ناقدة» ومغسل ومشحم حمص الدولي للدبابات والماغيرو وغيرها من الصفحات ذات الروح الساخرة. وقد ساهمت العديد من هذه الصفحات ذات المحتوى الساخر بدحض خطاب الأسد.
بعد سقوط الأسد، عادت السخرية ووجدت في ألبوم صور العائلة الملتقطة في المنزل وفي حالتهم الإنسانية بضعفها وهشاشتها، موضوع السخرية للسوريين والسوريات ممّن يريدون القضاء على أسطورة الأسد.
فانتشرت صور لبشار بجسد امرأة ترتدي ثياب استحمام. وفي صور أخرى، حاول البعض إثبات «مثليّته» بادعاء امتلاكه لعلاقات مع رجال من محيطه، ومنهم رجل يرتدي ثوب امرأة في ما يبدو حفلاً تنكرياً. هنا لامست السخرية الذكورة السامة، من خلال اعتبار المثلية إهانة أو التشبيه بالمرأة نيلًا من قيمة القيادي السياسي. ربّما أراد البعض من هذه السخرية ردّ الاعتبار للذات وتجريد الآخر من سطوته، إلا أنها تتضمن خطاباً يتنمّر على الفئات الأخرى التي لطالما تمّ التعدي عليها عبر أنواع من النكت غير الحساسة ولا المراعية. فرؤية آل الأسد بالملابس الداخلية في لحظات خاصة ومحرّمة على العين، فيه من كسر الإيهام ما يصيب بنشوة من الضحك الهستيري. تعرية هذه العائلة من قوتها ونفاقها ومن الوهم الذي فرضت به وجودها في سوريا لمدة 54 عاماً، يمنح آلاف الضحايا نوعاً من الراحة بكسر شوكة هذا الوحش المهيمن. لكنّ امتلاك الحساسية تجاه النساء وعدم تشبيه بيت الأسد بهن أو بالمثليين هو ضرورة لمنع الانتقاص من حقوق هذه الفئة وغياب الحساسية تجاهها.
الذكورة بين الأسد الأب والابن
لكنّ هذا النوع من السخرية يأتي في سياق استغلال النظام للذكورة من أجل دعم سيطرته. فاستعمل نموذجاً سامّاً للذكورة في وجه الذكورة السامة التي شكّلت إحدى دعامات صورة بيت الأسد. فعبر السنوات، ثبت حافظ الأسد صورته كقائد أوحد من خلال كافة المؤسسات، وخاصة الجيش والإعلام والتعليم والفنون، التي كرست تماثيله القاسية المتصلبة في ساحات سوريا. لطالما أطل حافظ الأسد من خلال شاشة التلفاز من شرفة مرتفعة بنظرة قاسية متصلبة تخلو من الإحساس. هذه الصورة للقائد القوي المطلق، هي مما ساهم في ثبيت حكمه المقرون بالأبد. فصورة الأب والرجل المطلق هي من رموز الذكورة السامة المهيمنة. هي نموذج للرجل في أعلى الهرم الاجتماعي ضمن المنظومة الأبوية المسيطر بشكل مرضيّ، والذي يسمح بتراتبية أبوية متصلبة تعلي من شأن الرجال العسكريين المتسلطين العنيفين.
بحسب آر دبليو كونيل، وهي عالمة اجتماع نسوية أسترالية وأستاذة فخرية في جامعة سيدني اشتهرت بشكل أساسي بتأسيس مجال دراسات الذكورة، هناك نموذج معياري للذكورة المهيمنة يتم تثبيته بالإعلام وعبر الصور المتعددة التي يتم تدويرها اجتماعياً وعبر المؤسسات المختلفة، لتمثيل معنى الذكورة التي يسعى الرجال لتبنّيها كي يحصلوا على الاعتراف المجتمعي من ناحية جندرية. عمد الأسد الأب إلى الترويج لذكورة تعتمد على القوة والعنف والمنافسة. ما سبق، من تعزيز لهرمية أبوية عنيفة، أسّس لمجتمع قائم على مركزية للأب الأوحد وساهم بتهميش كل من لا يمتلك خصائص القوة والعنف والمنافسة.
فيما بعد، ومع وفاة الأب القائد، حاول بشار الأسد، الوريث غير المرغوب به، تقديم صورة مختلفة، «موديرن»، وأكثر انفتاحاً وتجدّداً. لم يتمّ وضع تماثيل لبشار الأسد، لكنّ صوره كانت تحتل فضاء سوريا كاملاً. اعتمدت الدعاية لبشار على تصويره كطبيب منفتح درس في الغرب ومع زوجة عصرية بجنسية بريطانية. ظهر الثنائي مراراً في لقاءات إعلامية ترصد تحركاتهما في نشاطات إنسانية واجتماعية، على عكس حافظ الأسد الذي أحاط نفسه وزوجته بهالة من الغموض والتعالي المطلق على الشعب بتجنب الظهور العلني إلا لخطابات كبرى في مناسبات خاصة.
انتهت هذه الصورة مع القمع الدموي للمظاهرات السلمية التي اعترضت على حكم الأسد في 2011، ليتجاوز الابن «الموديرن» مجازر أبيه الصارم في حماة في الثمانينات. لذا، منذ بداية الثورة، تعرّض بشار للسخرية من مظهره وطريقته في الكلام، بما يحمله من صفات تبتعد عن نموذج والده القاسي والصلب. أي أن الأسد الأب كرّس نموذجاً من الرجولة حتى ابنه وقع ضحيته، وبات محطّ سخرية لكونه أكثر ضعفاً وهشاشة. وباتت المفارقة واضحة بين محاولته الظهور كعسكريّ محنّك وعدم مناسبة هذا الدور له بسبب سياساته التي أوقعت البلاد ضحية التدخلات الخارجية وعنف السلاح والبراميل. ما سبق، يعكس إشكالية التعاطي مع الذكورة من منطلق عزّزه نموذج الأسد الأب بطريقة باتت معياريّة للقياس عليها.
السخرية كأنسنة الأسطورة
السخرية هي حاجة للشفاء والتعافي من ظلم وقهر طويل الأمد. وهي طريقة لمحو كذب دعاية إعلامية وضعت بيت الأسد في مكانة سماوية. كانت خطابات الأسد الأب تدرَّس للحفظ عن ظهر قلب في المدارس. كما تعمّد الأب عدم الظهور إلا نادراً في لقاءات تاريخية بشكل مدروس لتكريس نفسه كسلطة مطلقة. فجاءت السخرية للقضاء على هذه الصورة. الأسد الأب في كلسونه الأسود أمام المرآة في نظرة يفترض منها تقديم ذاته بعضلات مفتولة، ساحباً بطنه إلى الداخل كنموذج للرجل المهيمن في أعلى هرم السيطرة والقوى، في مقابل الأسد الابن بسرواله الأبيض يقف بالمطبخ حالماً، أو أمام المرأة يأخذ سلفي نرجسي لما يتخيل في نفسه جمالاً وزهواً غير موجودين. الصور السابقة وغيرها من الصور فضحت خللاً في النظرة للذات ومعاني الذكورة وبحثاً عن تمجيد لنموذج مثالي مهيمن يفرض سطوته على من هم أضعف ويهدّد بخصائهم.
مُنع الشعب السوري لسنوات من حرية التعبير، وتحكّم النظام بالإعلام والتعليم وبجميع المؤسسات التي تتيح وجود فكر حرّ متنوّع ومختلف. ساهم تكميم الأفواه بمنع وجود مساحات حرّة للتعبير، وقد تحدّاه الناس بكافة الطرق، ومنها السخرية كوسيلة لمحاربة النظام وأكاذيبه ولرفع المعنويات وتثبيت العزم. واجهت العديد-ات السجون ومحاكم ميدانية لمجرد نكتة نطقن-وا بها. النكتة والسخرية وسيلة مهمة لخلق خطاب مضادّ للسلطة ولإيصال الأصوات المهمّشة. الآن مع حاجة سوريا للتعافي ولبناء المستقبل، يصبح من المهمّ حماية حرية التعبير بكافة أشكاله، مع الحساسية للفئات المستضعفة ومع الاستمرار بنشر البسمة على وجوه طالما أرهقها النظام السابق بعنفه.