باتت مسؤوليّة أقطاب النظام السياسي واضحة في كل ما يتعلّق بالإنهيار المالي والنقدي الذي تشهده البلاد. لا يقتصر ذلك على التأسيس للنموذج الاقتصادي الذي استنفد قدرته على البقاء فحسب، بل يشمل أيضاً العرقلة المتعمّدة لجميع شروط الحل المطلوبة اليوم.
على هذا النحو، كان واضحاً اتصال الكثير من القرارات المتعمّدة بتفاقم الوضع المالي والنقدي، من عرقلة التدقيق الجنائي والكابيتال كونترول إلى رفض تحديد الخسائر والإعتراف بها، وصولاً إلى الإطاحة بالتعيينات القضائيّة وخطة الكهرباء، وهي كلها قرارات أدّت إلى عرقلة مسار الخروج من الأزمة محليّاً، أو إقصاء أي دعم مالي خارجي محتمل.
لهذا السبب، اعتقد كثيرون أنّ بإمكان الانهيار أن يحمل معه فرصة التغيير، بعدما بات جليّاً ارتباط طبيعة النظام السياسي والقائمين عليه بتداعيات هذه الأزمة. كان يمكن لهذا الافتراض أن يصحّ لو أنّ المعارضة تمكّنت من فرض نفسها كطرح سياسي ناضج وقادر على قيادة المرحلة. لكنّ غياب هذا الطرح أفسح المجال أمام تحويل الانهيار إلى فرصة لأقطاب المنظومة السياسيّة نفسها، رغم مسؤوليتهم عن هذا الخراب، من خلال الاستثمار في شبكات الزبائنيّة و«الإعاشات» الزهيدة القادرة على حفظ ولاء الفئات الأكثر تضرّراً من الوضع الراهن.
باختصار، لن يكون الوضع الاقتصادي ولا انهيار مقومات الدولة فرصة تغييريّة كما تصوّر البعض، بل على العكس، كانت أحزاب الطوائف قادرة على استغلاله مجدداً وقلبه لصالحها، عبر رهن الناس بأكثر الحاجات حساسيّة.
من هذه الزاوية يمكن فهم ما يقوم به تيار المستقبل منذ فترة، عبر إطلاق أوسع حملة لتسجيل الأسماء في قوائم مستقلة، لتلقي لقاحات يدّعي المسؤولون في التيار أن الحريري سيؤمّنها من مصادر خاصّة. سمحت هذه القوائم لنواب التيار في المناطق إعادة إحياء شبكات تواصلهم مع الجمهور الناقم منذ فترة على أداء الحريري السياسي، مستغلين أكثر ما يثير مخاوف الناس اليوم: الموت من فيروس كورونا. فتحوّل فشل الدولة في إطلاق حملة تلقيح واسعة ومنظمة وعادلة، إلى فرصة للتيار الأزرق.
على المقلب الآخر، يتوسّع حزب الله في إنشاء المتاجر الخاصّة التي تعرض مواد غذائيّة مدعومة زهيدة الثمن، تتيح لحاملي بطاقات خاصّة من مناصري الحزب أو عناصره التبضّع وشراء السلع الحيويّة. وفي ظل فشل وزارة الاقتصاد في تنظيم عمليّة الدعم ومكافحة الاحتكار والتهريب، امتلك الحزب شبكة متاجره الخاصّة التي حيّدت الأوفياء له عن تداعيات هذه المسألة. هنا يتكامل جهد الحزب مع مسار آخر أطلقه لتوزيع «صناديق الإعاشات» على العائلات الأكثر حاجة، مستغلاً حالة تراجع قيمة مداخيل العائلات، وارتفاع معدلات البطالة.
يتشابه الحزب في هذا الجهد مع القوات اللبنانيّة التي باشرت بدورها توزيع هذا النوع من الصناديق في المناطق التي تهتم بأصواتها الانتخابيّة. علماً أن القوات باشرت أيضاً تنظيم حملة خاصة بها لتوزيع اللقاحات في منطقة بشري، تحت مظلة مؤسسة «جبل الأرز». أما الحزب التقدمي الإشتراكي، فعمد في المناطق التي يملك نفوذ فيها إلى تنظيم عمليات التموين الغذائي، في استعداد لمرحلة قد تشح فيها المواد الغذائيّة أو ترتفع أسعارها.
كلّ ما سبق ليس سوى نماذج قليلة من لائحة طويلة من ممارسات تتشابه أهدافها: ملء فراغ الدولة بمبادرات حزبيّة تشتري ولاء الجمهور وارتهانه، وهو ما يؤكّد أن لهذه الأحزاب خطتها للتعامل مع المرحلة الراهنة، بما يحوّل حالة الانهيار التي تسببت به إلى مناسبة يمكن استغلالها، بدل أن تكون خطراً على حيثيتها.