مرفأ للتهجير
أُنجِزت نصف أعمال البناء في المرفأ العائم الذي يشيّده الجيش الأميركي في قطاع غزّة، ويشير المسؤولون الأميركيون إلى أنّ بدء عمليّاته سيكون متوقّعًا ابتداءً من نهاية هذا الأسبوع. وبحسب جميع الخرائط وصور الأقمار الاصطناعيّة المتداولة، جرى اختيار موقع هذا المرفأ في المنطقة الواقعة حاليًا تحت سيطرة الجيش الإسرائيلي في وسط غزّة، والتي تخطّط إسرائيل لإبقائها كمنطقة عازلة على المدى البعيد. كما يتزامن إطلاق عمليّات هذا المرفأ مع قرب موعد العمليّة البريّة في منطقة رفح، التي أعلن رئيس الحكومة الإسرائيليّة بنيامين نتنياهو أنّها ستجري مع أو بدون صفقة تبادل، وهو ما يقطع الطريق على حلّ أو مقترح ينهي الحرب قبل اجتياح جنوب قطاع غزّة.
يشير تسلسل الأحداث هذا إلى بعض الأهداف المضمرة خلف المشروع الأميركي الآتي تحت ستار حجج إنسانيّة وإغاثيّة، والذي سيكبّد البنتاغون أكثر من 320 مليون دولار. سيسمح المرفأ العائم، أوّلاً، بتأمين تدفّق المساعدات من دون العبور بمعبر رفح الذي سيُقفَل بمجرّد بدء العمليّات العسكريّة في المنطقة المحاذية له. وسيصبح تدفّق المساعدات هذا خاضعًا للرقابة والسيطرة الإسرائيليّة المباشرة، كما ستتحكّم إسرائيل بوجهة المساعدات داخل القطاع والجهات التي ستُشرف على توزيعها. بهذا الشكل، لن تكتفي إسرائيل بالإشراف والموافقة على مرور المساعدات عن بُعد، كما هو الحال عبر معبر رفح، بل ستتمكّن من استعمال سلاح المساعدات لفرض الإدارة المدنيّة التي تختارها داخل القطاع.
في الوقت نفسه، ستسمح السيطرة على المساعدات بتنفيذ خطط التهجير داخل القطاع، عبر إجبار أهالي غزّة على الاتجاه نحو المناطق التي تستفيد من المساعدات، ومغادرة المناطق التي يتم تجويعها. وهذا ما فعلته إسرائيل أساسًا في شمال قطاع غزّة، الخاضع للحصار المطبق منذ أشهر. كما سيكون المرفأ العائم المعبر الذي يسمح بتنفيذ خطّة تهجير أهالي القطاع إلى الخارج، بعيدًا عن القيود المفروضة على الخروج من خلال معبر رفح. فتزامن إطلاق المرفأ العائم، مع تسريب أنباء عن وجود خطط لدى إدارة بايدن، لاستقبال لاجئين من قطاع غزّة، ما يفتح الباب أمام تهجير أهل غزّة من قطاعهم. وهذا تحديداً ما طالب به بعض السياسيين الإسرائيليين في بداية الحرب، وهو ما يتّضح مع الوقت أنّه لم يكن تطرفًا مجنونًا يمكن تجاهله، بل خطة واقعية رفض العالم آنذاك أخذها على محمل الجدّ.
تهجير منهجي
لم ينتظر التهجير بناء مرفأ لكي يبدأ. فالتغيير الديمغرافي في القطاع بات حقيقة واقعة، ظهرت معالمها منذ أوّل أيّام حرب الإبادة.
فرغم إعلان النظام المصري رفضه الصارم لمحاولات تهجير أهالي القطاع، فُتح معبر رفح منذ بداية الحرب بشكل استنسابي للأسر القادرة على دفع رسوم «التنسيق» للخروج من القطاع المُحاصر. بهذا المعنى، كان إفراغ القطاع من المقيمين متاحًا، لكن لطبقات معيّنة من النازحين. وبطبيعة الحال، لا توجد أرقام معلنة لعدد الأشخاص الذين غادروا القطاع منذ بدء الحرب، لكن من الأكيد أن أعداد النازحين يمكن تقديرها بالمئات يوميًا، كما يتضح من كشوفات التنسيق التي يجري تداولها كل يوم.
على أنّ حقيقة التهجير لا تقتصر على أعداد الذين غادروا القطاع بالفعل. فعلى المدى المتوسّط، من المستبعد أن تصمد الغالبيّة الساحقة من أهالي القطاع في بؤر موت، لا تتمتّع بأدنى مقومات الحياة، من الخدمات الصحيّة والتعليميّة إلى أبسط البنى الاقتصادية. فسياسة التدمير المنهجي للقطاع تهدف إلى خلق واقع معاش، مفاده أنّ لا حياة ممكنة في القطاع. وبغياب أي تصوّر لكيفيّة إعادة إعمار القطاع المُحاصر، باتت الهجرة إلى خارج القطاع نافذة الحياة الوحيدة المتبقية لمن لم يغادر القطاع بعد.
منطقة قيد التهجير
غزّة، رغم قساوة المشهد، ليست استثناءً في منطقة الشرق الأوسط، التي يتمّ إعادة هيكلتها بخطط التهجير والتغيير الديمغرافي منذ أكثر من عقدين.
بدأ مسلسل التهجير مع العراق في العام 2003، حيث فتح الاحتلال الأميركي الباب أمام سياسة إعادة هيكلة الدولة العراقية من خلال هندسة مجتمعها ديموغرافيًا، هندسة شارك بها عدد من اللاعبين. في بعض الأحيان، كانت أعمال التهجير من صنع ميليشيات إسلاميّة متطرّفة، قبل أن يولد تنظيم داعش الذي طوّر أدوات التغيير الديموغرافي باعتماد وسائل وحشيّة وصلت إلى حدّ الإتجار بالبشر. ثمّ وُلدت ميليشيات الحشد الشعبي التي أتت لتحرير العراقيين من تنظيم داعش، وترافقت مع أعمال تهجير طائفيّة مضادة، وإن تفاوتت قسوة أو طائفيّة هذه الميليشيات بتفاوت الجهات التي تسيطر عليها.
بدورها، دخلت سوريا في مسلسل التهجير منذ عام 2012. خضعت مناطق واسعة من الجغرافيا السوريّة لخطط التغيير الديموغرافي، التي قامت بها الميليشيات اللبنانيّة والإيرانيّة والعراقيّة على نطاق واسع. وكما هو معلوم، ما زالت العديد من المناطق السوريّة المحاذية للبنان مدمّرة وخالية من السكّان، منذ السيطرة عليها من قبل حزب الله وبعض الميليشيات الحليفة. كما تقتضي الإشارة إلى أنّ بعض عمليّات التغيير الديمغرافي شكّلت أداةً في الصراع بين الجيش التركي والميليشيات المدعومة منه، والميليشيات الكرديّة، في شرق وشمال البلاد.
أمّا في لبنان، فتحوّل اللجوء السوري إلى سلاح تستعمله النخب الحاكمة لمقايضة المجتمع الدولي، من باب ابتزازه بالهجرة إلى أوروبا. وعلى هذا النحو، بات الحصول على المساعدات، كتلك التي احتفى بها رئيس الحكومة نجيب ميقاتي هذا الأسبوع، البديل عن وضع الحلول الملائمة للتعامل مع الأزمات التي يعاني منها اللاجئون والمجتمع المضيف على حدٍ سواء. في بيئة سياسيّة من هذا النوع، تصبح الخطابات العنصريّة والمتشنّجة السلاح المناسب الذي يمكن استعماله، قبل القيام بهذه المقايضات الانتهازيّة.
عَوْدٌ على بدء
لمن يعاين منطقة الشرق الأوسط اليوم، لا يمكن إلّا أن يعود إلى بداية القرن العشرين، حيث تزامن صعود الدول الحديثة مع إعادة هيكلة ديموغرافية، تداخل فيها العامل الكولونيالي مع سياسات محلية. فجاء رسم الحدود وصعود سياسات الدول مترافقاً مع عمليات تهجير وانتقال سكاني وإعادة تعريف للهويّات. ثبت هذا التوزيع لعقود، لكي يبدو وكأنّه أزلي، مهما كان قاسيًا كسيرورة اجتماعية.
لكن يبدو الحاضر وكأنّه عودة إلى حالة من التهجير السياسي وإعادة هيكلة المنطقة ديموغرافياً. عادت الشعوب وتوزيعها لتشكّل «مشكلة» على القيّمين على الوضع معالجتها، من خلال سياسات «إنسانية» أو عنف عسكري. فمن العراق إلى فلسطين، مرورًا بسوريا ولبنان، كتل بشرية يتمّ تغيير مكانها، تقسيمها، تجويعها، قتلها، لكي تجد مكانًا مختلفًا قد يسمح بتسوية جديدة.
في منطقة الشرق الأوسط، بات الناس هم المشكلة.