تحليل ميديا
صهيب أيّوب

الجثّة الأجمل

19 آب 2020

التعاطف مورد محدود السعة

بول بلوم، عالم نفس

 

التعاطف يؤدّي إلى قصر النظر الأخلاقي

جيسي برينز، فيلسوف

 

منذ مجزرة بيروت، يعيد مستخدمو السوشال ميديا توليف الجثّة وبنيتها وتحديث وظيفتها. كأنّها في احتراقها ودمويّتها تحيا بأنساق أخرى. ولأنّ الميديا الحديثة هي المسرح الآخر للجثّة في تواجدها وانتشارها ودخولها حيوات الآخرين ورؤوسهم، فإنّها (أي الميديا) تعيد للجثّة فعلها السياسي دليلاً للإدانة. فتطرحها سؤالاً لمعنى الجريمة والأخلاق، يستمدّ قوّته بصريّاً من تاريخ هذه الجثّة، شكلها، جمالها، وبالطبع جندريتها وسنّها، إضافةً إلى حالتها الاجتماعية.

تتمّ مأسسة التعاطف من خلال السؤال: مع أيّ الجثث نتعاطف، أو نتعاطف أكثر؟ أو كيف نعطي لجثّةٍ دون أخرى وجوداً ميديوياً، من خلال تعاطفنا معها وتفضيلنا لها على جثثٍ أخرى؟

كان لافتاً، منذ خروج صور الضحايا اللبنانيّين (تحديداً) وهويّاتهم، على مواقع التواصل الاجتماعي، أن يكون لوجوه محدّدة الحضور الأقوى في لعبة التعاطف الميديوي. فصُوَر شباب وسيمين أو أطفال بريئين، كانت أكثر الصور انتشاراً وتداولاً، باعتبار الضحية «مادّة بصريّة» تحقّق هدفها الأخلاقي، في الإحساس بهول المجزرة. وهو استخدام يتورّط فيه الإعلام متجاهلاً ضحايا آخرين. فتمّ تجاهل عمّال في المرفأ والضحايا السوريّين الذين تجاوز عددهم الأربعين شخصاً، وبالطبع العاملات الأجنبيات اللواتي وُضِعن في خانة مجهولات الهوية. كلّ هؤلاء الذين لا تنطبق عليهم معايير التعاطف المباشر، كونهم «أغراباً». إذ يلتفت علماء النفس الى هذه المسألة، معتبرين أننا ميالون للتعاطف مع الضحايا الذين يتشاركون معنا الجنسية والجماعة الدينية والعرق.

وهنا يمكن الاستدلال إلى «أثر الضحية المعرّفة»، بكونها ضحية لديها قوّة تأثير. قوة وسلطة تجعلانها تتفوّق على ضحايا الآخرين. فيصبحون أرقاماً أو مجرّد أسماء لا وجوه لها. أما الضحية المعرّفة، فهي ضحية مدركة بصرياً. لها تعاطفها الشخصي والخاص. يمكن رؤيتها والتحسّر عليها وإمعان النظر في تفاصيلها الجمالية. كأنّنا في متحف، ولسنا بصدد موت موهل. تصبح الجثة هنا تمثالاً لا نريد تشويهه ولا نريد تخيُّل كيف أمسى. فنكرّر صورها بشكلها قبل الموت. أي قبل أن تتحوّل في حياتنا إلى ضحية. فتحيا معنا ولو بالتعاطف والحسرة، بما كانته. أي بمكوّناتها التي لم تعد موجودة أو شُوِّهت.

ولعلّ ميل الكثيرين إلى مشاركة هذا النوع من الصور، كنوعٍ من الانتقائية لضحايا المجزرة (ولو بشكل غير مباشر أو واعٍ)، وتقديمها أيضاً في الإعلام الغربي، وفي قصص السوشال ميديا، مفهوم تماماً. إذ يتمّ اختيار الضحايا الأجمل وجعلهم ميديوياً «لحظات أيقونية» لا بد أنها ستنطفئ مع الوقت، وحينها يلتفت المستخدمون إلى ضحايا جدد، تضاف إلى استهلاكهم اللحظوي. فالضحايا المدركون بصرياً، هم ضحايا بملامح تستمدّ قوّتها من جمالها الشكلي، وبراءتها (في حالة الضحايا الأطفال)، ومن عمرها اليافع. إذ تُستخدَم الجملة- المفتاح في التعبير عن التعاطف: خسر زهرة شبابه. كأنّ الضحايا المعمِّرين أو الذين تجاوزوا الخمسين من أعمارهم لا يستحقون الانتباه في البازار الميديويّ.

تتحوّل صور «الجثث الأجمل» إلى ضحايا مركزيّين. وهنا يبدو أن الضحية القبيحة لا مكان لها في التعاطف. أو أنها تُسحَل بصرياً وتُطمَر كما طُمِرت تحت الأنقاض أجسادها. وهي بهذا الانتقاء يتمّ إعادة مسرحة قتلها، والتشكيك في قدرتها على التعاطف معها باعتبارها أقلّ تأثيراً، أو مجرّدةً من تسليعها البصري، فيتمّ استثناؤها من التوثيق. وهنا تحدث مظلومية الجثة، بكونها لم تُعَر اهتماماً أو تعاطفاً، ممّا يجعل موتها مستحقاً، حتى لو لم يُقَل ذلك.

من الضروري إعادة السؤال عن استخدام الصور ورسائل التأثير في الإعلام التقليدي والحديث، بشكل لا يتمّ فيه قتل الضحايا معنوياً مرّةً أخرى، لا سيّما أولئك الذين ماتوا على أرض ليست لهم.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 21/11/2024
هكذا أصبح نتنياهو وغالانت مطلوبَيْن للعدالة
12 غارة على الضاحية الجنوبية لبيروت
5 تُهم ضدّ نتنياهو وغالانت 
الاتحاد الأوروبي: قرار المحكمة الجنائية مُلزِم لكلّ دول الاتحاد