تحليل طوفان الأقصى
موسى أشرشور

الجزائر وحرب غزّة: الحسابات أقوى من الكلمات

10 آذار 2024

«سندفن شهداءنا هذا المساء في رفح، في غزة وبكل فلسطين. وستعود الجزائر غداً باسم الأمة العربية والإسلامية وأحرار العالم، لتدقّ أبواب مجلس الأمن مرّة أخرى وتطالب بوقف حمام الدم...». بهذه الكلمات الشاعرية المدوّية، خاطب مندوب الجزائر في الأمم المتحدة، عمار بن جامع، الحاضرين في اجتماع مجلس الأمن، يوم 20 شباط/فبراير، تعقيباً على الاقتراح الذي قدّمته الجزائر للمطالبة بوقف إنساني لإطلاق النار في غزة. 

سيلٌ من التعليقات المهلّلة أعقبت كلمة السفير على مواقع التواصل الاجتماعي. لعلّ من أطرفها تحليل لنبرة صوت المتحدّث ولغة جسده اللتين استشَفّ منهما أحد المعلّقين «كلمات وعيد وتحدٍّ». وعلى المنوال نفسه، كتب المحلّل السياسي «الملتزم» عبد الباري عطوان: إن «الجزائر فضحت أمريكا ومزّقت القناع عن وجهها الدموي القاتل القبيح»… وذلك لأنّ أميركا كانت الدولة الوحيدة التي رفضت ـ وبامتعاض جليّ ـ مقترح الجزائر. معركة شرف كسبتها الجزائر، وسط الخزي المستشري، (أو «رسالة إلى كلّ الأنذال»، على حد تعبير أحدهم). 

لكن، في الواقع، يدرك الجميع مسبقاً أنّ كلمة الجزائر في الأمم المتحدة كانت بالأحرى معركة دونكشوتية.  فهل كانت تلك الكلمة أقلّ ما يمكن لبلد مثل الجزائر أن يفعله من أجل فلسطين، أم كانت أعلى وأغلى خدمة يمكن أن تقدّمها في هذا الزمن العربي المستكين؟    


دفاعاً عن ماء الوجه

قبل تلك الكلمة، كان ينتاب الجزائريّين نوعٌ من الكبت أو نوع من الشعور بالخزي منذ اندلاع الحرب التي تبيد الشعب الفلسطيني في غزّة. يعجزون عن تفسير هذا الصمت الذي طال أمده، ولا يرون فيه ماذا يميّزهم ـ ويميّز بلادهم ـ عن بقية البلدان العربية التي ركنت إلى الصمت نفسه؟ تبيّن لهم فجأة أن شعار «الجزائر مع فلسطين ظالمة أو مظلومة» مجرد شعار، ليست له أية ترجمة في الواقع.

تحاول الجزائر الرسمية إظهار موقفها التقليدي المساند للقضية الفلسطينية، لكن دون أي تهوّر، ودون إقحام نفسها في اشتباك لا طائل منه مع الدول الغربية الحليفة لإسرائيل. فنأت بنفسها حتى عن اجتماعات القمم العربية والإسلامية ـ مثل قمة الرياض الطارئة التي عُقدت في 11 تشرين الثاني/نوفمبر، للنظر في القضية التي تهزّ المنطقة بكاملها، واكتفت بتسجيل اسمها رمزياً في هيئة الأمم المتحدة، قبل مداخلة مندوبها التي أنقذت ماء وجهها في آخر لحظة، وأعادت إلى الأذهان اسم الجزائر.

قبل ذلك، كانت السلطات قد منعت رئيساً أسبق لحزب إسلامي ـ هو عبد الرزاق مقري ـ من السفر إلى قطر لمقابلة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس اسماعيل هنية. كما منعت تنظيم تظاهرات شعبية (باستثناء مرّة واحدة يوم 19 تشرين الأوّل/ أكتوبر)، ورفضت التعليق عمّا أشيع من أخبار بخصوص ترحيل قادة حماس، وعلى رأسهم يحيى السنوار، إلى الجزائر، كنقطة من ضمن رزمة من الاقتراحات التي قدّمتها عدة أطراف ـ عربية وأوروبية ـ لتسهيل الوصول إلى وقف دائم لإطلاق النار في غزة. كما لم يصدر أي تعليق من الجهات الرسمية عن نداء الاستغاثة الذي أطلقته طبيبة جزائرية متواجدة في غزة، تناشد فيه، عبر مواقع التواصل الاجتماعي، الرئيس الجزائري التدخل لإجلاء الجزائريين من القطاع، وإنقاذهم من خطر الموت المحدق بهم «بعدما فقدوا كرامتهم». نتذكر هنا أن الرئيس، وفي قرار وصف بالشجاع، أمر أيام الزلزال المدمر الذي ضرب تركيا وسوريا في شباط/فبراير 2023، بإرسال طائرات عسكرية، متحدّياً الحظر الدولي المضروب على الأجواء السورية، لإجلاء الرعايا الجزائريين المتواجدين على الأراضي السورية.


في مرآة الماضي

لعلّ أوّل من يُحرَج من هذا الفتور في الموقف الرسمي هم أصحاب السلطة أنفسهم، ذلك أنّه فتور يناقض الموقف الجزائري تاريخياً. فالجزائر هي التي بادرت في تشرين الأوّل/أكتوبر سنة 2022 ـ حيث كانت القضية الفلسطينية لا تزال على هامش القضايا الدولية ـ إلى توحيد الفصائل الفلسطينية، وقد التقط آنذاك الرئيس عبد المجيد تبون صورة تاريخية وهو يمسك بيدَي الرئيس محمود عباس ورئيس حركة حماس إسماعيل هنية. كما دعت الجزائر هنية لحضور أكبر استعراض عسكري جزائري، بمناسبة الاحتفال بذكرى الاستقلال، في الخامس من تمّوز/يوليو من السنة نفسها، في خطوة جريئة تحمل دلالات واضحة عن دعم المقاومة الفلسطينية ممثلة في جناحها الأكثر راديكالية. 

والجزائر، قبل كل ذلك، احتضنت المؤتمر الفلسطيني الذي أعلن فيه ياسر عرفات سنة 1988 عن قيام الدولة الفلسطينية. ولو عدنا إلى ماضٍ أبعد، لا يغيب عن المؤرخين ما قدّمته الجزائر من حضور وتضحيات، في سنوات 1967 و1973.

يروي اللواء خالد نزار في مذكراته عن هذه الحقبة، وهو من الضباط الذين أرسلهم الجيش الجزائري إلى الجبهة، ولم تكن قد مضت بعدُ خمس سنوات على انتهاء الحرب التحريرية: «لم تتأخر الجزائر، فور خروجها من حربها الطويلة والمدمرة، في الوقوف إلى جنب أشقائها العرب في صراعهم ضد إسرائيل، بالرغم من كونها غير مستعدة لخوض غمار حرب تقليدية مثل تلك التي كانت ترتسم معالمها في الشرق الأوسط. فالجيش الجزائري الذي نشأ من إعادة تشكيل جيش التحرير الوطني، كان مدرباً على حرب العصابات التي طالما برع فيها في محاربة القوات الاستعمارية. هذه المشاركة المبكرة في خدمة القضية العربية كانت بالنسبة للجزائر مناسبة لتعبر عن تضامنها مع منطقة ما فتئت تعلن انتماءها إليها وتمسكها بها.» (على الجبهة المصرية، 2010). وهذه شهادة على مدى التزام الجزائر بالقضية الفلسطينية في زمن الحروب. التزام تتصوّره امتداداً لحرب التحرير التي خاضتها ضد الاحتلال الفرنسي من 1954 إلى 1962. 

نتذكر أيضاً قوافل المساعدات الغذائية التي قادها جزائريون ـ بترخيص من السلطة ـ وغامروا بأنفسهم بها في سنوات الحصار، بين عامَيْ 2010 و2017. وكان قد سُمح أيّامها للنشطاء الإسلاميين بالمشاركة في هذا العمل الذي عملت السلطات على ألا يخرج من إطاره الإنساني والتضامني. 


عوامل داخليّة وخارجيّة

يتّضح من هذا الماضي أنّ الجزائريين لا يتحرّجون في أن يقدّموا أنفسهم نموذجاً للنضال التحرّري، وهم الذين ثاروا ضد الاحتلال ـ وانتصروا عليه ـ ويرون أنفسهم أحقّ من غيرهم للدفاع عن قضايا التحرر في العالم، وعلى رأسها القضية الفلسطينية وتليها القضية الصحراوية. لكن من الواضح أن الجزائر لن تتجرأ على اتخاذ أي مبادرة نوعية أو عسكرية بشكل منفرد أو خارج الإطار العربي المشترك، عكس ما تفعله مثلاً تجاه ثوار الصحراء الغربية الذين توفر لهم كافة أشكال الدعم السياسي والمادي. ولعلّ السلطة الجزائرية قد اختبرت مخاطر تغريدها خارج إطار عربيّ مشترك حين لاحت بوادر تموقع الجزائر إقليمياً مع التكتل الذي تقوده قطر- راعية حماس- في مسرح التجاذبات السياسية العربية، وهذا ما جلب لها خصومات هي في غنى عنها، لا سيما مع دولة الإمارات العربية، راعية التطبيع العربي مع إسرائيل.  

لكنّ المحاذير الجزائريّة في الملفّ الفلسطيني لا تقتصر على العوامل الخارجيّة، بل تطال أيضاً السياسة الداخلية، ولا سيّما تعامل السلطة مع التيارات الإسلامية. ذلك أنّ نظام الحكم في الجزائر يخشى أن تخدم المزايدة في الدفاع عن القضية الفلسطينية معسكر الإسلاميين الذين يعرفون أحسن من غيرهم استغلال المشاعر والرموز الدينية التي تحملها فلسطين والقدس والأقصى. ولهذا، ربما، منع نظام الحكم في السابق أيّ التحام مباشر بين حمس الجزائر (التي كانت في البداية تُسمّى حماس) وحماس الفلسطينية. أمّا الآن، فجاء العدوان على غزّة في خضمّ مساعي السلطة الجزائرية لتذويب التيار الإسلامي في ما تسمّيه «الجبهة الداخلية» التي تدعو إليها لمواجهة التحدّيات والتهديدات التي تحدق بالجزائر، مع تصاعد التوترات على حدودها، خاصة الشرقية والجنوبية. وإذ لم تجد السلطة أي صعوبة لاحتواء الإسلاميين المعتدلين (حمس، النهضة، البناء، العدالة والتنمية....)، إلا أنها تجد صعوبة في استدراج التيار الراديكالي، من بقايا جبهة الإنقاذ وحركة رشاد. لا بل يبدو أن الخطاب الراديكالي (علي بن حاج، العربي زيتوت...) يسعى لتأليب الرأي العام ضد كل أنظمة الحكم العربية القائمة، ومن ضمنها نظام الحكم في الجزائر، التي يتهمها بالخيانة والخضوع والابتعاد عن تطلعات الشعوب. 

لعلّ هذه العوامل الداخلية والخارجية هي التي تجعل الجزائر تتوخّى الحذر الشديد في تعاملها مع القضية الفلسطينية، وتختار المواعيد والمناسبات التي تعلي فيها صوتها وتضبط التوازن بين الكلام والفعل.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
لكلّ يومٍ هرُّه
موجات متجدّدة من الغارات تستهدف الضاحية الجنوبية 
شهيدان في غارة إسرائيلية على شاطئ صور  
إسرائيل ترتكب مجزرةً في منطقة البسطا
62 شهيداً في عدوان الخميس 21 تشرين الثاني 2024
غارة إسرائيلية تقتل علي علام، مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في دورس