ليس عبثًا اختيار الإعلامي جو معلوف ليكون بطلًا في فيلم كفرناحوم للمخرجة اللبنانية «العالمية» نادين لبكي. فكما بات معروفاً، يتمحور الفيلم حول زين، الشخصية الرئيسية، وهو طفل مكتوم القيد، واعٍ لبيئته الاجتماعية، محكوم بالسجن خمسة أعوام لطعنه رجلًا. يظهر الطفل في المشهد الأوّل من الفيلم مواجهًا أهله في قاعة المحكمة، مع وكيلته التي تلعب دورها المخرجة نفسها. أمّا تهمة الأهل، فهي: «لماذا جلبتموني إلى هذا العالم؟». يكمل الفيلم الذي يمتدّ نحو ساعتين ونصف على المنوال نفسه، أي أنّ أولئك الأهل الذين يُنجبون الكثير من الأطفال، هم السبب في ما تؤول إليه أحوال أطفالهم.
ولكن كيف وصل زين إلى القاعة أساسًا؟ لقد كان الطفل في السجن، يشاهد حلقةً لبرنامج اجتماعي فضائحي يقدّمه الإعلامي جو معلوف. رأى الطفل البرنامج، اتصل به مباشرةً طالبًا النجدة، مطالبًا بتقديم دعوى ضد أهله، الأمر الذي داعب مشاعر الرأي العام لتظهر المخرجة المخلّصة بدور المحامية، وتخلّص زين من الجريمة التي اقترفها أهله بحقّه، أي إنجابه.
انتشر البارحة فيديو لأبٍ يحمل طفله في ساحة رياض الصلح، في وجه خراطيم المياه التي كانت تستخدمها القوى الأمنية «لإبعاد» المتظاهرين عن الساحة. عند محاولة الأب الطلب من القوى الأمنية عدم استخدام العنف المفرط، أصابت خراطيم المياه الأب وطفله مباشرة. كان المتظاهرون قد تراجعوا، والساحة أصبحت خالية. وبحسب المصوّر الصحفي حسن شعبان، فإنّ الأب قد اقترب من الخطّ الأمامي بعد تفرّق المتظاهرين وابتعادهم عن الساحة. رغم ذلك، ورغم معرفة القوى الأمنية بعدم وجود أحد في الصف الأمامي باستثناء الرجل وطفله، لم توفّر خراطيم المياه الرجل وابنه، حتى أصبحا عاجزَيْن حتى عن الهروب منها. إثر هذا الفيديو، تحرّك الإعلامي المخلّص لإنقاذ الطفل، جو معلوف نفسه، مستقصيًا عن هوية الأب، وواعداً بتقديم إخبار لدى القضاء يوم الإثنين لمقاضاة الأب الذي اصطحب إبنه إلى ساحة التظاهر.
ليست محاسبة الأب غريبةً عن التيار الكفرناحومي. فقد اكتفى الإعلامي بوضع المسؤولية على الأب وتجريمه على فعلته، تمامًا كما فعلت المخرجة في فيلمها، أي عزل السياق السياسي للحدث عن الحدث نفسه، وتجريده من خلفيّته.
يأتي تجريم الأب ومحاكمته على خلفية اعتبار ساحات التظاهر ساحات مواجهة مع القوى الأمنية، حيث أنّ وجود الأطفال هناك يشكّل خطراً على حياتهم، وهنا المشكلة. فالسلطة تعمل على تحويل هذه الساحات من ساحاتٍ للتظاهر إلى ساحاتٍ للمواجهة، وتحمل محاسبة الأب على وجوده هناك اعترافاً ضمنياً بالساحات كساحات مواجهة، وتشريعاً للقمع الذي تمارسه القوى الأمنية بحق المتظاهرين. هذا التشريع الذي كرّسه الإعلام التقليدي بالتفريق بين المتظاهرين وتصنيفهم بين «سلميّين» و«عنفيّين»، وبمساءلتهم عن أساليبهم تمامًا كما تفعل الأجهزة الأمنية عند نشرها صورةً لأقنعة غاز على اعتبارها أدوات تخريبية. يغفل هذا الخطاب استعمال القوّة المفرطة مع المتظاهرين، لا بل يعمل على تطبيعها كوسيلة معتمدة في التظاهرات.
أضِفْ إلى ذلك أنّ هذا الخطاب الخائف على الطفولة، بتجريمه الأب، يحمل تصنيفًا لما هو صحيح وما هو خطأ. تأتي هذه الثنائية لتكرّس ما هو مسموح، وما هو غير مسموح، ما هي العدالة، وما هي حقوق الأطفال بمعزل عن النظام الأمني الاقتصادي القمعي. فالحملة التي تطال الأب تأخذ النقاش السياسي إلى منزلة اللاسياسة، مُغفِلةً كلّ العوامل المحيطة بالحادثة، وتحصرها بخطاب حقوق الطفل وحماية الأحداث المذكور في المعاهدات الدولية، التي تعتبر بدورها سلطة في تحديدها للحقائق بمعزل عن سياق الأحداث.
يحدّد هذا الخطاب حقوق الأطفال تحت هذا النظام، علاقتهم بذويهم وحدود هذه العلاقة، متى يجب التبليغ عن الأهل، ومحاكمتهم، وبالتالي تشريع التحريض ضدّهم في هذا السياق. خطاب قادم من امتيازات وادّعاء السهر على تحقيق العدالة الاجتماعية والمفاخرة بها.
في محاكمة الأب تحريضٌ عليه وعلى دوافع قراره لاصطحاب ابنه إلى ساحات التظاهر أو لتعريضه «للخطر» الذي يتحمّل مسؤوليّته هو نفسه. فيها تحريضٌ على الأطفال بوضعهم في فقاعة ترعاها القوانين والمعاهدات الدولية التي تمارس سلطتها بإقرار الأفضل لهم ومكان وجودهم. فيها مواجهةٌ مع كل الآباء والأمهات الذين أرادوا اصطحاب أطفالهم إلى ساحات التظاهر، ربّما لاعتبارهم أنّ ساحات التظاهر هي جزء لا يتجزّأ من تربية أطفالهم. في المحاكمة إنتاجٌ لمعنى العنف وشكله الذي يغفل عنف النظام بتهديد الأطفال بأمنهم الغذائي والتعليمي. في المحاكمة تضليل وإنتاج لمشكلة بمعزل عن المشكلة الأساسية، أي قمع النظام بمؤسّساته الأمنية والاقتصادية.