مؤتمر للمصارحة والمصالحة
ربّما كانت الكلمة السياسية الوحيدة في جلسات مناقشة البيان الوزاري، الأسبوع الفائت، هي التي ألقاها رئيس حزب الكتائب اللبنانية سامي الجميّل، وقد طرح فيها رؤيته للماضي اللبناني وحاضره المأزوم، داعيًا الجميع إلى «مؤتمر المصارحة والمصالحة». في جو من المناقشات السطحية، كتلك التي غالباً ما تشهدها هذه الجلسات، بدت كلمة الجميّل وكأنّها درس في السياسة، هذه السياسة التي لا يمكن استبدالها بالكلام عن تقنيّات الإصلاح والإدارة. وفي هذه الدعوة إلى المصالحة، استمرار لتقليد كتائبي، بدأ بعد الحرب الأهلية، حيث كان هذا الحزب من القلّة التي بادرت بما يشبه إعادة النظر بماضيها، وصولًا إلى «مصالحة» مع ممثلي السلطة الفلسطينية في عام 2008.
انطلق الجميّل من تشييع نصرالله، ليستذكر باقي شهداء الطوائف، من بشير الجميّل إلى رفيق الحريري وكمال جنبلاط. من هذا الاستذكار ومن واقع الانقسام اللبناني وحالة الاحتلال والقهر، كانت دعوته إلى جمع «قصص» الطوائف اللبنانية ضمن «قصة لبنانية» واحدة، قصة المسيحيين ونضالهم للحرية، وقصة السنّة وعودتهم إلى لبنان من كنف الإمبراطوريات، وقصة الشيعة وشعورهم بالغبن، وقصة الدروز وطريقهم من الإمارة إلى لبنان. فشهداء الطوائف المتصارعة، وهذا هو التحدي، هم «قدّيسو» لبنان الموحّد، هذا إن قبل ورثتهم أن يعترفوا ببعضهم بعضاً وبشهدائهم ونضالاتهم ومساراتهم المتفرقة التي أوصلتهم، كلٌّ على طريقته، إلى لبنان.
رواية قديمة- جديدة
يمكن الاختلاف مع بعض تفاصيل هذه الرؤية لتاريخ لبنان ورفضها كليًا. لكن يجب الاعتراف أن من بين الأحزاب اللبنانية، يبدو حزب الكتائب اللبنانية من القلّة التي تحاول تجديد نفسها، وإن كانت علاقتها بعائلة الجميّل خارج هذا التجديد. وكان هذا التجديد واضحًا بتبني الحزب قضايا اجتماعية خارج «اختصاصه» التاريخي وتموضعه الواضح في الحركة الاعتراضية الأخيرة. هو تجديد لحزب تاريخي، ومحاولة للوريث لإعادة ابتكار حزبه، مع ما تتضمنه تجربة كهذه من صعوبات وتقلّبات.
وهذا القديم- المتجدّد، أو الجديد- القديم، واضح في عرض الجميّل الأخير. فهو قدّم مرافعة سياسية، تكسر مع أدبيات السياسة اللبنانية في الآونة الأخيرة، وتفتح أفقًا مختلفاً لمقاربة «مسألة» حزب الله. لكن في هذا العرض الجديد، أصداء من «قصة» قديمة، يتمّ تكرارها مع كل أزمة، من دون التوقف للحظة لمواجهة سؤال ما إذا كانت هذه النظرة للبنان هي المشكلة وليست الحلّ. فالدعوة إلى لبنان، دعوة «أقليّات» تبحث عن ملجأ، ليست دعوة مجرّدة، بل هي القصة المسيحية، بعدما حاول منظروها أنّ يعمّموها على باقي الطوائف لكي تصبح نظرة جامعة في لحظة الهيمنة في منتصف القرن الفائت. هذا واضح من تعريف الروايات الأربعة عند الجميّل، والتي هي نابعة من منظور مسيحي، يرى الوجود المسيحي كالأصيل، ليس فقط كأول الوافدين إلى لبنان من بين الجماعات، بل أيضًا كالنموذج الذي على باقي الطوائف الالتحاق به، أي النظر إلى أنفسهم كأقليّات. فشرط الانتماء إلى القصة اللبنانية هو أن تكون أقليّة، وتعيد تأريخ ذاتك كأقليّة تبحث عن ملجأ، ربّما أضاعت الطريق بعض الوقت، لكنّ العنف والقتل أعادها إلى الطريق الصحيح.
هذه الرواية ليست جديدة أيضاً. هي رواية ميشال شيحا، ومن بعده القوى المسيحية. وهي رواية 14 آذار، والتي أعادت تعريف مسيرة رفيق الحريري بعد استشهاده كالتحاق متأخّر للسنّة بفكرة لبنان، والذي رمز إليه نديم الجميّل حينها بإكليل وضع على ضريح الحريري وكُتِب عليه: من شهيد 14 أيلول إلى شهيد 14 شباط. وفي تلك المرحلة، تمّ أيضًا ضمّ كمال جنبلاط لهذه القافلة من الشهداء المؤسسين لـ«القصة اللبنانية»، كما شهداء اليسار، من مهدي عامل إلى حسين مروة، ليتّسع «بانتيون» الفكرة اللبنانية ويضمّ حتى نقّادها. فالقصة اللبنانية هي قصّة مهزومين، جماعات حاولت الهروب من هويتها كأقليّة، قبل أن يعيدها الموت إلى كنف تجمّع الطوائف المهزومة. وبقيت هذه القصة تنتظر استكمال الحضور، أو «عودة» الشيعة لها. فجاء التشييع لكي يستكمل القصة.
آخر فصل، وليس أوّل فصل
يجب الاعتراف بأنّ ما طرحه الجميّل أعمق مما يتمّ عرضه حتى الآن في الحقل السياسي اللبناني، المنقسم بين «عنتريات» أحزاب فاقدة لأي صلاحية سياسية و«تقنيات» أحزاب تغييرية وثورية، لا تريد المسّ بالواقع الطائفي. هو، بهذا المعنى، دعوة صريحة لطيّ صفحة الماضي. فالجميّل فهم قبل حلفائه أنّ هناك متغيّراً في السياسة اللبنانية يتطلب مقاربة جديدة. حتى شرطا هذا المؤتمر، وهما نزع السلاح والخروج من المحاور، واللذان يشكلان نقطتي السجال الحالي، مرّ الجميّل عليهما سريعًا، لإخراج هذه الدعوة من بازار السجالات المعتادة. نقد حزب الله بات جزءاً من مشروع مصالحة، وليس العكس، وربّما هذا ما يحتاجه البلد اليوم.
لكنّ هذا المؤتمر التأسيسي، كما يقدّمه الجميّل، أقرب إلى مؤتمر ختامي، أو الحلقة الأخيرة في مسلسل طويل من الطوائف التي حاولت، واحدة بعد الأخرى، أن تهيمن أو تستعين بالخارج أو تخرج من حدود الانتماء الوطني، قبل أن تعود مهزومة إلى لبنان. لكن مع استكمال الرواية، تبدو حدودها السياسية، ويظهر طابعها الخيالي. وهنا لا داعي لتكرار النقد اليساري لهذه الرواية، عن تركيب الطوائف وبنيوية أزمتهم. يمكن فقط التدقيق بمفهوم السياسة الذي تنطوي عليه دعوة كهذه، والتي يمكن تلخيصها بعملية مصارحة بين ممثلي طوائف أزلية، بتفضي كل يلي بقلبها، وتنتهي من هذه الدراما التي بات عمرها من عمر البلاد. السياسة أقرب إلى عملية تنشئة اجتماعية، حيث الطوائف، كالأخوة المتصارعين، تذهب كل واحدة بعيدًا في مغامرتها، قبل أن تعود إلى بيت العائلة، مكسورة، لكي تجتمع حول مائدة العشاء، في المشهد الأخير، لتتصارح وتعيد ترميم البيت العائلي سويًا. لكنّ الفيلم ينتهي هنا، لا يبدأ هنا.
المكبوت المادي
ربّما كان هذا هو المطلوب الآن، رغم النقد الذي يمكن توجيهه لمقاربة الجميّل. فمهما انتقدنا، يبقى هذا المقترح الوحيد الذي يستحقّ النقد والنقاش في بحر من الفراغ السياسي. ولكونه مغرياً كمقترح سياسي جامع وشجاع في طرحه الصريح لطيّ صفحة الماضي، تشكّل دعوة الجميّل أرضية للنقاش عن معالم المستقبل بعد هزائم الطوائف المتتالية.
في رواية الجميّل، هناك قصة أخرى، قصة من ليس له قصة، وقرّر أنّ علاقته مباشرة مع الدولة، لا تحتاج لوساطة طائفة. هؤلاء لم يستطيعوا إقناع الناس، حسب الجميّل، فاختفوا من القصة. لا شهداء لهم، ولا درس لهم. أو إذا كان هناك من مكان لهم، فهم كيساريين تائبين، عادوا بمراحل إلى القصة اللبنانية، من باب طائفة أو أخرى. فمن هو «غير طائفي» بات طائفة بهذه النظرة، أقليّة، من غير الواضح ما هي مطالبها غير رفض الانتماء لطائفة. غيرُ الطائفي هو الأخ الغريب و«السبيسيال» للعائلة اللبنانية، لا داعي لقمعه لكن ليس هناك ما يقدّمه للعائلة.
لو كان «غير الطائفي» مجموعة، لكانت استوت رواية الجميّل. لكنّ «غير الطائفي» ليس مجموعة أفراد أو حتى طبقات، هذه الكائنات التي كان اليسار يريد استبدال الطوائف بها. هو «المتبقي» بعد أن قالت الطوائف كل ما لديها، أو «المكبوت» الذي لا تريد الطوائف مواجهته. حزب الكتائب اللبنانية هو، بهذا المعنى، «وعي النظام اللبناني لذاته»، وعي لا يريد مواجهة حقائق قد تعكّر صفاء نظرته لذاته. المتبقي غير الطائفي هو تطور المجتمع اللبناني وتحوّله مع الوقت، والمسائل التي يواجهها والتي لا تنتظم بخطاب الطوائف. هو الأزمات المادية التي تعصف به، والتي تحوّل بنى المجتمع، غير آبهة بالطوائف وجنون عظمتها. هو الصراعات على الحريات وحق الاختلاف، والتي لا مكان لها في مؤتمرات المصارحة. هو المعاش اليومي الذي يشكّل حياة الناس، والذي يتحرّك على إيقاع غير مرتبط بمشاريع ممثلي الطوائف.
لكنّه ليس فقط ما هو خارج عن الخطاب الطائفي. هو أيضًا الطوائف في تحولاتها الاجتماعية، والتي لا يمكن توحيدها برواية جامعة. ما هو غير طائفي هو الدولة والمؤسسات التي تشكّل شرط وجود الطوائف في هذا البلد، والتي بنيت غالبًا في وجه الطوائف. هو هذا البيت الذي على الإخوة العودة إليه بعد مغامراتهم الجنونية، والذي ما زال يستقبلهم، رغم أنّهم أخطأوا مرارًا وتكرارًا. هو التاريخ الذي ما زال العقل اللبناني يعانده، تمسكًا برواية طوائف وزعمائها الشهداء.
كان سامي الجميّل على حق عندما قال إنّ هذه البلاد تعاني من مرض الـamnesia، ما يجعل الحاضر مجرّد تحضير لتكرار أخطاء الماضي. لكنّ ما ننساه كل مرة، ليس فقط أخطاء الطوائف، بل التاريخ المادي لوجودنا، أي المعاش الذي لا ينتظم بتراجيديا الطوائف وشهدائها. وهذا المتبقي بات اليوم القصة كلها، وليس ما يتبقى بعد أن تتصارح الطوائف. هذا المتبقي بأزماته وتحوّلاته ومعاشه هو اليوم ما علينا أن نسيّسه. قدّم سامي الجميّل شكل الفصل الأخير لرواية بات عمرها نصف قرن. لكن إذا أردنا قراءة الفصل الأول لرواية جديدة، فعلينا تغيير نظرتنا عن أنفسنا، وبدء مواجهة حقيقتنا المادية، بوعي جديد.