المصارفُ تحتجز أموالَ المودعين مِن دون الاستناد إلى أيّ مرسومٍ صادرٍ عن الدولة. بكلماتٍ أخرى، ثمّة أشخاصٌ قرّروا، بصفتهم الفرديّة المحضة وخلافاً للقوانين، منعَ جزءٍ كبيرٍ مِن الشعب عن التصرُّف بماله كما يحلو له. بمعنى آخر، ثمّة زمرةٌ صادرت إلى أجلٍ غير مُسمّى ما ليس لها بُغية تحقيق أرباح ماليّة على حساب خسائر مَن لهم حقّ التصرِّف بما تمّت مصادرته بغير وجه حقّ. بعبارة أخرى، ثمّة عمليّةُ سرقةٍ علنيّةٌ تحصل على نطاق بلدٍ برمّته منذ حوالي شهرَيْن، مِن دون أنّ تُحرِّك الدّولةُ ساكناً. بل إن الدّولةَ هذه سهَّلت عمليّةَ النهبِ مِن خلال توفيرِ حماية أمنيّة للناهب. هذا كلّه صار معلوماً. لكن ما ليس بمعلومٍ، ربّما، هو أنّ ما أقدمت عليه المصارفُ أطاح بشرعيّة الدولة كليّاً، فبتنا نعيش خارج سيادة القانون وأضحى كلُّ شيءٍ مباحاً لأيٍّ كان. فحتّى أحَدُ أكبرِ المُنَظِّرين للحُكْمِ المُطْلَق، الفيلسوف الإنكليزي توماس هوبز (1588 – 1679)، الذي ذهب إلى أنّ الرعايا يُدينون للدولة بطاعةٍ شبه عمياء ولا يحقُّ لهم، تاليّاً، مُساءَلة قراراتِ الأخيرةِ وأفعالِها، كان سيرى في ما اقْتَرفَتْه المصارفُ اللبنانيّةُ مُسوِّغاً لعصيانِ المواطنين، وتمرُّدِهم على الدولة، وتَحَرُّرِهم مِن أيّ التزامٍ سياسيّ وقانونيّ.
وفقاً لهوبز، للدَّولةِ سلطةٌ مُطلقةٌ في كيفيّة تدبير شؤونِ المُجتمعِ كلّها، السياسيّة والاقتصاديّة وحتّى الدينيّة، وهي لا تُدين لرعاياها سوى بشيءٍ وحيد: توفير الأمان، أيّ حماية الرعايا مِن أذيّةٍ قد يُلحقها واحدهم بالآخر مِن قبيل القتل، أو الاعتداء الجسدي، أو سرقة الممتلكات أو الأموال. يعتبر هوبز أنّ علّةَ وجودِ الدولةِ انتشالُ الأفراد ممّا يُسمّيه الحالة الطبيعيّة، وهي ظروف العيش قبل نشوء الدولة، حيث لا يَجْمَعُ بين البشرِ أيُّ رابطٍ سياسيّ؛ ويُلَخِّصُ الظروفَ هذه بعبارته الشهيرة: حرب الجميع ضدّ الجميع. ففي الحالة الطبيعة، يسعى كلّ فردٍ للحفاظِ على ذاتِه بالوسائلِ التي يراها هو وحده مناسبةً، إذ ليس مِن مرجِعٍ خارجيّ يُمكن الاحتكامُ إليه. لذا، يحقُّ لكلِّ امرئٍ فعلُ أيّ شيء، وهو ما يُسمّيه هوبز الحقّ الطبيعي. ويؤدّي ذلك إلى تفشّي الرَّيبة والخوف، إذ أنّ الجميع يخشى الجميع. ولا يمكن الخروج مِن هذه الحالة عن طريق تَعاقد الأفراد فيما بينهم على عدم استخدام العنف، إذ لا شيء يضمن ألّا يَنكث عهدَه أيٌّ مِن هؤلاء الأفراد عندما يكون ذلك مواتياً له. الحلُّ الوحيد هو تَعاقدُ الجميع على التخلّي عن حقِّهم الطبيعي في فعلِ أيّ شيء لمصلحة طرفٍ ثالث يرضخون له جميعاً. ومُقابل الرضوخ والطاعة، يُؤَمِّن هذا الطرف الثالث (الحاكم أو السلطان) حمايةَ الجميع مِن الجميع. هذا هو، بحسب هوبز، العقد الاجتماعي المُؤَسِّس للدولة. وبموجب هذا العقد، لا يُسائِل الرعايا الدولةَ، وإنّما يطيعونها فقط، ذلك أنّهم قدّ تخلّوا عن كامل حقوقهم مقابل الحمايةِ والعيش المُستقِرّ. لكن، حتّى ضمن إطار هذه النظرية السلطويّة للغاية، ثمّة مسوِّغ للخروج عن طاعة الدولة، وهو عجز الأخيرة عن أداء الوظيفة التي قامت مِن أجلها، أي تأمين الحماية. فعجز الدولة عن ذلك هو فسخٌ للعقد الاجتماعي، أيّ عودةٌ إلى الحالة الطبيعيّة الأصليّة، فيستردّ كلُّ فردٍ حينئذٍ حقَّه الطبيعي في الحفاظ على ذاته بالوسائل التي يراها مُناسبة. والحالةُ الطبيعيّةُ، وفقاً لهوبز، مُطابقةٌ للحرب الأهليّة.
وإنْ عُدنا إلى واقعنا اللبناني، نرى أنّ هناك مجموعة مِن الأفراد تعتدي علناً، ومنذ شهرَيْن، على جزءٍ كبيرٍ مِن المواطنين فيما الدولة تخلَّت عن وظيفتها الأساس (وهي علّة وجودها)، أي تأمين الحماية. هذا يعني، بكلّ بساطة، أنّ المصارف أطاحت بالدولة وأشعلت حرباً أهليّة (والحرب الأهلية ليست بالضرورة بين طوائف كما قد يتخيّل اللبنانيون). لقد فُسِخَ العقد الاجتماعي، وما يحكمنا الآن ليس قانوناً، وإنّما عنفٌ عارٍ ما زال يدّعي أنه قانون. وحتّى بالنسبة للسلطويّ توماس هوبز، لقد استردّ كلٌّ منّا حقّه الطبيعي في الحفاظ على ذاته بالوسائل التي يراها مناسبة. ذلك أنّ ما يتَسيَّدُ علينا حاليّاً جماعةٌ تدّعي أنها دولة قانون، لكنّها، في الواقع، لا تُطبِّق سوى شريعة الغاب
نحن الآن في حربٍ ضدّ المصارف خارج إطار أيّ قانون.