في تعليقه على موضوع رفع الدعم أو إمكانيّة المس بالإحتياطي الإلزامي للإستمرار بتوفيره، علّق كبير الإقتصاديين في مجموعة بنك بيبلوس، نسيب غبريل، على الموضوع، معتبراً أن مصرف لبنان هو المصرف المركزي الوحيد في العالم الذي يتحمّل دعم المواد الأساسيّة، إذ أن الدعم يجب أن يكون داخلاً في الموازنة العامة وتتحمّله خزينة الدولة. كما إعتبر غبريل أن الإحتياطي يجب أن يعود للمصارف في حال تحريره، على أن تقرر المصارف إمكانيّة إيداعها في مصرف لبنان لاحقاً بعد ذلك.
من البديهي أن نسيب غبريل، الناطق بلسان حال المصارف اليوم والمعبّر عن أولويّاتها، يعرف تمام المعرفة أن الدولة لا تملك القدرة اليوم، ولن تملك القدرة قريباً، على توفير الدعم الذي يتحدّث عنه. بمعنى آخر، ما يقوله غبريل لا يعني سوى خيار واضح في عمليّة المفاضلة، أو بالأحرى الإبتزاز، بين رفع الدعم وسحق الطبقات الأقل القدرة على مواجهة الأزمة، وتطيير ما تبقى من سيولة المودعين في مصرف لبنان. لكنّ المفارقة هنا هي أن غبريل لا يريد رفع الدعم لمصلحة المودع، صاحب الحق الإقتصادي في ما يخص هذه السيولة، بل لمصلحة المصارف التي يعود لها أن تقرّر مآل هذه الأموال بعد تحريرها.
المغالطة الأولى التي وقع فيها غبريل هنا، هي خلطه ما بين دعم الطبقات الفقيرة وقدرتها على شراء السلع الأساسيّة، والذي غالباً ما يكون على أساس برامج حكوميّة وبتمويل من الموازنة، ودعم سعر الصرف للإستيراد. فما يقوم به مصرف لبنان اليوم لا يصنّف في خانة الدعم الحكومي للسلع الإستهلاكيّة، بل هو إستعمال لإحتياطات المصرف المركزي لدعم سعر الصرف المعتمد لإستيراد سلع محددة. وهذه إحدى الأدوات النقديّة المعروفة التي تستعملها الكثير من المصارف المركزيّة، خصوصاً في الدول التي تمر بفترات طويلة من التأزّم في القطاع المالي، أو في الدول التي تختار عن قصد الخروج عن آليّات السوق الحر. مع العلم أن التدخّل في مسألة سعر الصرف لهذه الغاية، وفي هذه الظروف، يندرج في إطار المهامّ التي تأسس لأجلها مصرف لبنان بموجب قانون النقد والتسليف، الذي ينص على المحافظة على سلامة النقد اللبناني، والمحافظة على الاستقرار الاقتصادي.
في الواقع، ما قاله غبريل عن عدم جواز تمويل الدعم من مصرف لبنان، ينطبق تحديداً على آليّات الدعم البديلة التي ستذهب إليها الحكومة بعد رفع الدعم، كآليّات البطاقات التموينيّة. فإذا أبصرت النور ستكون تلك البطاقات فعلاً إحدى أشكال الدعم الحكومي للطبقات الفقيرة، لكن تمويلها سيكون من المصرف المركزي، عبر إقراض الدولة وطبع النقد. أمّا الإشكاليّة هنا، والتي لم تجد فِرق العمل الحكومي علاج لها، فهي كلفة هذه البطاقات على جميع اللبنانيين وخصوصاً محدودي الدخل، من خلال أثرها على مستوى سعر صرف الليرة على المدى المتوسّط.
في كل الحالات، وبمعزل عن خلط غبريل بين مبدأ دعم سعر الصرف والدعم الحكومي، ثمّة إشكاليّة أكبر تتعلّق بالدور الذي يُفترض أن يلعبه الإحتياطي الإلزامي الموجود لدى مصرف لبنان. فإسترجاع الإحتياطي، لمصلحة المصارف، يصحّ في حالات الإستقرار المالي، حيث تقوم المصارف المركزيّة عادة برفع أو خفض مستوى هذا الإحتياطي وفقاً لحاجة الأسواق للسيولة وبحسب رؤية المصارف المركزيّة لمستويات التضخّم والنمو الإقتصادي المستهدفة.
لكن في حالات التعثّر المالي، أي في الحالات التي لا تقوى فيها المصارف على سداد إلتزاماتها للمودعين، فلا يوجد منطق يبرر تسليم هذه السيولة للمصارف نفسها لتتصرّف بها على هواها، خصوصاً أن فكرة وجود هذا الإحتياطي الإلزامي تقوم على مبدأ وجود ضمانة أخيرة للمودعين لدى مصرف لبنان لا ينبغي التفريط بها في حالات التعثّر. وإذا كان هناك ما يكفي من أدلّة على علاقة سوء إئتمان المصارف بحالة التعثّر الحاليّة، فمن البديهي أن لا تؤتمن إدارات هذه المصارف على هذه السيولة المتبقية في هذا الظرف بالذات. لا بل يمكن القول، وفي ظل ما شهده اللبنانيون من عمليات تهريب منظمة للودائع لمصلحة أصحاب النفوذ السياسي والمالي، أن مطلب إستعادة ما تبقى من إحتياطات لا يخفي سوى التمهيد للسطو على ما تبقى من سيولة في النظام المالي بنفس الطريقة.
بين الضغط لوقف الدعم، والمطالبة بالسطو على ما تبقى من أموال المودعين في مصرف لبنان، كشف غبريل في حديثه عن أولويات القطاع المصرفي بشكل واضح. وفي المقابل، يبدو من الواضح أيضًا أن السلطة، أو ما تبقى من أشلاء فرق عمل الحكومة، ذهبت فعلاً في مسار المفاضلة بين رفع الدعم التدريجي ورمي كلفة الأزمة على الفئات المحدودة الدخل، والإستمرار بنزف إحتياطات مصرف لبنان ببطء، لتطيير ما تبقى من دولارات الودائع. بين الخيارين، ثمّة الكثير من الأسئلة التي لم تطرح، وأولها عن سبب وضع اللبنانيين أمام هذا النوع من الإبتزاز الموصوف بعد أكثر من سنة بالذات، وعن سبب تخييرهم بين هذه الإحتمالات المؤلمة دون أن يكون هناك أي تصوّر لخطة يمكن الرهان عليها للخروج من حالة الإنهيار الراهنة.