بتعرفي شو اللي نجّانا يا فرح؟ فتحت كل شي الصبح قبل ما فلّ متل ما بتذكريني أعمل. هذا ما تُمضي أمّي وقتها تقوله حول عدم تضرّرنا والمنزل من انفجار المرفأ.
بعد ثلاثة أيّام، ما زلت أرفض ما تقوله أمّي. أرفض أن أصدّق أنّنا نجونا بفضل الصدفة والقدر بعد أن قرّرتُ عدم الذهاب إلى الجمّيزة قبل ساعة واحدة من الانفجار، وبعد أن قّررت أمّي البقاء في المنزل وتأجيل الجولة الأسبوعية إلى السوبرماركت. أرفض تسليم نجاتنا الماضية والمستقبلية إلى الصدف والحظّ كلّما أطلّت على البلد مصيبة جديدة.
يوم الأربعاء، ذهبتُ مرّتين مع رفيقتي إلى الجمّيزة بكامل ما اعتقدناه تأهّباً نفسياً وجسدياً للمساعدة. لكن بينما كنت أحاول أن أقنع نفسي أنّ السبب لوقوفي عاجزة ولعدم تمكّني من المساعدة هو قامتي الضئيلة، كنت في الحقيقة أجبر نفسي على تجاهل ما رأيته وسط الدمار: عبثية محاولة معرفة كيف نساعد في التخلّص من دمار بهذا الحجم فيما يتفرّغ الجيش لمساءلتنا عن سبب مجيئنا، وفيما تقف عناصر مكافحة الشغب للفصل بين المتطوّعين ومناصري سعد الحريري الذين اختاروا الدفاع عن سياسيّ مغدور وابنه في ذاك النهار بالتحديد. لم إذاً التخلص من دمار لم نسبّبه ونعرف أنّنا لن نقدر على التخلص منه؟ ما النفع أو الجدوى من المحاولة أصلاّ؟
لا تلبث المصيبة أن تحلّ وتهيمن على بالنا ويومياتنا حتّى نجد أنفسنا نتخبّط بين قطبين في أذهاننا وفي أحاديثنا مع الآخرين: من الشعور بالامتنان ظنّاً منّا أنّ الأمور كان يمكنها أن تكون أسوأ، إلى العودة لانتظار وتخيّل الأسوأ الذي لم نشهده بعد. ويبدو أنّ الانفجار قد كشف عن القطب الثالث: التفكير والتفكير فيما يمكن أن يكون بانتظارنا وهو مخفيّ عنّا. هل سيظهر لنا كمفاجأة لم نتوقّعها في ظروف «طبيعية»؟ أم هل سيهبّ في حيواتنا ضمن سلسلة من الأحداث المشؤومة التي نعيشها؟
لعلّ منظر انفجار كذبة التعايش لحظة انفجار المرفأ هو الشيء الوحيد الآن الذي يحمل بعض العزاء. في كلّ مرّة تصيبنا مشكلة، نجد نفسنا جاهدين للتعايش والتأقلم معها. إلّا أنّ هذا التعايش لا يعود إلى طبيعتنا أو ثقافتنا كـ«شعب»، أو قوّتنا الهائلة على «الصمود» الذي يُحتفى به بكافّة الأساليب الساذجة، بل إلى ما يُفرض علينا من قبل السلطة والنظام عند كلّ جائحة. فنحن محاصرون من كلّ الجوانب: نُلاقى بالتهديدات والتشبيح عندما نحاول المواجهة والاصطدام، ثمّ نصطدم بواقع يشلّنا ويتركنا عاجزين وعالقين في دوّامة تعيسة أسميناها قوى المعارضة. فهذا التعايش إذاً مفروض علينا بالقوّة، بعكس اعتقاد الكثيرين بفشلنا كشعب وعدم اكتراثنا بما فيه الكفاية للتخلّص من السلطة وإجرامها.
كلّ ما تخلّله اليوم والبارحة من تسارع الناس لإغاثة ومساعدة المتضرّرين هو خير دليل على عبثية المفاهيم الفارغة عن الدولة اللبنانية ودورها وحتّى جدواها، أو بالأحرى على عبثية الاستنجاد بها ومناشدتها للتحرّك ليس فقط في السياقات الكارثية بل بالمطلق. كلّ هذه المفاهيم الفارغة والساذجة، من محاربة الفساد إلى اتّهام الدولة أو السلطة بالفشل إلى التشبّث بفكرة لبنان الشامخ وشعبه الصامد أو حتّى إلى مطالب المحاسبة والتنحّي، لا تقوم بشيء سوى محو الواقع والحقيقة وترقيعه كمحاولة لعدم خوض معركة الآتي الذي نجهله. لا، الانفجار لم يكن إهمالاً ولم يكن فشلاً. الفشل يفترض أنّ السلطة فشلت في خطّة ما، أياً كانت، وفي تحقيق نواياها بحمايتنا. لكن ما حدث كلّه كان متعمّداً، هم تعمّدوا ترك الموادّ لسنوات في المرفأ عمداً، وسيناريو الانفجار هو مجرّد تفصيل هم اختاروا ألّا يجعلوه جزءاً من المعادلة التي وضعوها. الواقع هو أنّ عدم تجهيز البنى التحتية وعدم تزويد الموارد اللازمة للاستجابة لكوارث بهذا الحجم، هي متعمّدة وليست محض صدفة أو نتيجة إهمال أحد ما سقطت هذه الأولوية سهواً عن قائمة أولوياته. لذا، فإنّ كلّ الشعارات والمطالبات التي تفترض جدوى ابتزاز السلطة أخلاقياً لا تقوم سوى بتعزيز تعايشنا مع هذا الواقع البائس.
نحن أُجبرنا على التعايش مع فكرة التعايش والعيش المشترك نفسها، سواءً بين الطوائف أو مع سلطة مكوّنة من أمراء حرب يعتاشون على القتل والنهب الممنهج والمدروس، أو مع أنظمة اجتماعية مبنية على استغلالنا وعلى تقييد وإرشاد اعتراضنا عليها... دوّامات لامتناهية من الألاعيب النفسية التي ترهقنا وتحثّنا على لوم أنفسنا لما آل إليه بلد هزيل يكاد لا يُرى على الخريطة.
لعلّ خاتمة أحزاننا تكون انتهاء تعايشنا مع همروجة التعايش التي كانت تنكز جلدنا طيلة هذا الوقت وتبيح ابتزازنا لصالح بقاء وطن لم ولن نعرفه، وترمي بنا ككبش محرقة هذه البقعة البائسة.