أجمل كسْر في هذا الحراك هو ما حصل بين الفرد وطائفته. نظر الناس إلى أوضاعهم المعيشية، ووجدوا أنفسهم في تناقض مع هواجسهم البنيوية. لم تعد الأقلوية السياسية تلبّي طموح أتباع الطائفة المسيحية في تردّي أوضاعهم الاقتصادية، ولم تعد المقاومة تقنع جمهورها. أمّا عند طائفتَيْ السُنّة والدروز، فضياع سياسي شامل يتشخصن في زعيم، ولكنه لا يلبّي متطلّبات الأقساط المعيشية.
لكلّ الطوائف في لبنان جمهور، وقد انفصم هذا الجمهور لبرهة لينظر في أمور حياته. هذا الفصام هو وضعية الحراك، فإمّا أن نتمترس خلف سرديات الطائفة وهواجسها، وإمّا أن ننتفض على سوء الأحوال الاجتماعية الذي يربطنا بغيرنا من المواطنين. يبلغ هذا الفصام أوجَه عند حزب الله. فجمهوره ليس اعتيادياً. الفارق كبير بين جمهور الحزب وسائر الأحزاب اللبنانية. فوحده الحزب قدر أن يقنع الناس ببذل الدم منذ انتهاء الحرب الأهلية، وهو سجّل انتصاراً على إسرائيل، عدو العرب الدائم. المقاومة عند الحزب ثقافة وطريقة حياة.
يعتزّ الشيعة، كطائفة، بالنصر. يجعلون منه إطاراً للعلاقة مع غيرهم ممّن هم خارج الطائفة. الحراك هزّ هذا الإطار، وأدخل الحزب في فصام. إما أن تكون مع المقاومة، وإمّا أن تكون مع أمورك الحياتية اليومية. إما أن تحتمي في حضن الحزب، وإمّا أن تقبل أن تشارك بقية اللبنانيّين أوضاعهم التعيسة. هذا التناقض بين المقاومة وأوضاع البلد المعيشية هو ما يخيف الحزب، اللاعب السياسي الأقوى في لبنان. فهل تبقى مؤسسة الحزب أقوى من مطالب الحراك؟
في خطابه الأخير، طمأن نصرالله جمهوره بأن معاشاتهم مستقرّة مهما حصل في البلد. ولكن،
هل تصمد هذه المعاشات في وجه الغلاء المتعاظم في البلد؟
هل تؤمّن شبكة التأمين الصحي التابعة للحزب علاجاتٍ للأمراض الناتجة عن الفشل السياسي في البلد؟
هل للحزب نظام تعليميّ يسمح للناس بخيارات وظيفية واسعة ولا علاقة لها بالضرورة بالحزب؟
ما برهنه الحراك، خصوصاً في أيّامه الأولى، هو أن جمهور الحزب كغيره من الناس ما عاد يطيق وضعه الاجتماعي.
هذا الوضع المتأزم في البلد جاوب عليه الحزب بالتذكير بإسرائيل، النقطة الأخيرة التي تطرق إليها خطاب نصرالله الثالث. المقاومة تبقى خط دفاعه الوحيد. قوته الجبارة هنا. ولكن هل يمكن المقاومة أن تعوّض حقيقة أنّ الحزب خاسر اجتماعياً؟ فلم يعد خافياً أنّ لا كفاءة عند الحزب لإدارة البلد، وهذا ما برهنه «العهد القوي» الذي فصَّله الحزب على مقاسه.
يبقى المخرج لنا جميعاً هو التركيز على العدالة الاجتماعية والفرص المتساوية. المطالب الاجتماعية هي البوصلة، وإعادة تشكيل علاقاتنا ببعضنا بعضاً هي السبيل. التركيز على الأوضاع الاقتصادية ليس ترفاً. هنا نلتقي جميعاً. واليوم ننتظر أن يعاود أهل الحزب الوقوف إلى جانبنا في الشارع والقول معنا بصوت واحد هيدي ثورة للعمال… يسقط يسقط رأس المال، بغض النظر عن مصدره: خارجياً كان أم داخلياً.