انقلب القاضي غسان عويدات على المحقق العدلي القاضي طارق البيطار بعد إصدار الأخير اجتهاداً خاصّاً عاد بموجبه إلى التحقيق في جريمة المرفأ. انقلاب أطلق جميع الموقوفين في الملف، وادّعى على البيطار وحاصره في منزله، أو على الأكثر في مكتبه في قصر العدل. لكنّ بعض الأسئلة الأساسية المحيطة بالانقلاب لا تزال معلّقة.
1. لماذا أصدر البيطار اجتهاده الآن ولم يلجأ إليه منذ عام أو أكثر لوقف كل العرقلة القائمة في الملف؟
مِن الحجج التي استخدمها أنصار السلطة والداعون إلى «قبع» البيطار، التساؤل عن «توقيت» لجوئه إلى الاجتهاد لمتابعة عمله. وربط هؤلاء خطوة البيطار بزيارة وفد القضاة الفرنسيين، وحياكة مؤامرة دولية على المسؤولين اللبنانيين.
لكن، في الواقع، فإنّ الانقلاب الذي كان يُعدّ على يد أربعة من أعضاء مجلس القضاء الأعلى من خلال الدعوة إلى عقد جلسات تمرير هرطقة القاضي البديل، سبق لقاء القضاة الفرنسيين. وكان القضاة الأربعة مستمرّين في خطوتهم الانقلابيّة، بدعم من مراجعهم السياسية، وكانوا سيؤمّنون عاجلاً أم آجلاً النصاب للسير في الهرطقة. فيوضع البيطار على الرفّ، ويعيّن محقق «رديف» يقدم على ما فعله عويدات.
يبدو أنّ البيطار استشعر خطورة الأمر، فاستبق انقلاب أعضاء مجلس القضاء الأعلى، وعجّل بتقديم اجتهاده- بعكس ما أشيع بأنه تأخّر فيه- كونه كان يفضّل انتظار البتّ بكل العقبات القضائية الموضوعة أمامه بالمسارات القانونية الاعتيادية، أي طلبات الردّ والنقل ودعاوى المخاصمة. لكنّ السلطة عطّلت هذه المسارات تباعاً، من خلال عرقلة التشكيلات القضائية واستمرار مخاصمة القضاة الناظرين بطلبات ردّه.
2. لماذا نفّذ عويدات الانقلاب بهذا الهجوم الشرس غير المسبوق؟
برّر عويدات خطوته الانقلابية بالقول إنها الردّ المناسب على ما اعتبره تجاوزات طارق البيطار الذي لا تزال يده مكفوفةً. لكنّه استند إلى القرآن والإنجيل بدلاً من النصوص القانونيّة. حتى أكثر المتحمّسين له من السلطة لم يجدوا حجة قانونية لتبرير انقلابه. فعاد عويدات ولجأ إلى بعبع الحرب الأهليّة، معتبراً أنّه بقراره منع الدم في الشارع.
لكنّ ما لم يقله عويدات بنفسه أفصحت عنه السلطة، عبر إعلامها، فردّت انقلاب عويدات إلى ضغوط أميركية مورست على الدولة اللبنانية من أجل إطلاق سراح محمد زياد العوف. والعوف، رئيس مصلحة الأمن والسلامة العامة في المرفأ، كان موقوفاً ومدّعى عليه، وارتأت الدولة الأميركية أنه «رهينة» لدى السلطة اللبنانية لكون توقيفه قائماً من دون حكم قضائي. فاضطرّ عويدات المسكين الخائف من العقوبات إلى إطلاق سراحه وجميع الموقوفين، وتأخير تعميم مذكرة منع السفر بحقه حتى وصل إلى مطار رفيق الحريري الدولي وغادر على متن رحلة باتجاه الأراضي الأميركية.
لكنّ السلطة التي أرادت تبرير خطأ عويدات، وضعتْه، في الواقع، في خانة القضاة الذين يرضخون للضغوط الخارجيّة، في حين أنّ قرارات إخلاء السبيل التي اتّخذها بيطار فور عودته إلى التحقيق بعد تقديم اجتهاده القانوني، لم تشمل العوف. المضحك هو أنّ السلطة نفسها تتّهم بيطار بأنّه قاضٍ مسيّس ويعمل وفق أجندات خارجية.
بكلّ الحالات، تحوّل «بلاء» الضغوط الأميركية من أجل إطلاق الموقوفين، إلى «نعمة» للسلطة للإجهاز على التحقيق. فتقاطعت مصالح السلطة اللبنانية مع الضغوط الأميركية، وتمّ الانقلاب المطلوب على التحقيق والمحقق العدلي وأهالي الضحايا.
3. ماذا الذي ينتظرنا في موضوع تحقيق المرفأ وكشف الحقيقة؟
لم تشفِ السلطة غليلها من القاضي طارق البيطار، لأنّ الأمر الصادر بـ«قبعه» لم يُنفّذ كاملاً بعد. والتحريض مستمرّ على البيطار لإصدار عويدات مذكرة توقيف بحقّه، أو لـ«يمكسه من دينته ويفوّته على الحبس»، بحسب ما قال الوزير السابق وئام وهاب. لذا سيستمرّ ضغط الأعضاء الأربعة في مجلس القضاء الأعلى لتنحية البيطار عن الملف، مع الاستعانة بتوقيع وزير العدل هنري خوري لإزاحة البيطار وتعيين محقق عدلي آخر خلفاً له.
لكنّ محاكمة طارق البيطار وتوقيفه إجراءان يستوجبان موافقة الرئيس سهيل عبّود الذي لا يزال إلى الآن صامداً في وجه محاولات النيل من المحقق العدلي. وإن استمرّ في تأمين هذا الغطاء، يمكن للبيطار أن يستكمل عمله ضمن الحصار المفروض عليه. لكن يمكن أيضاً لعبّود أن يصدّ الانقلاب عبر إجراءات ضدّ عويدات وانقلابه.
بين حدّ تنحية البيطار وحدّ معاقبة عويدات، يُستشَفّ أنّ ثمة «ستاتيكو» قائم لبعض الوقت، يمكن للبيطار خلاله أن يتابع التحقيق وإعداد القرار الاتهامي في القضية، لكن من دون استجوابات أو إجراءات تصدر عنه. إذ يبقى الحصار الذي فرضه عويدات عليه قائماً، ويبقى ممنوعاً من تعميم القرارات والتواصل مع الضابطة العدلية وأقلام النيابة العامة. وهو ما لمّح إليه عويدات قبل يومين بإشارته إلى أنه «يمكن للمحقق العدلي أن يتابع تحقيقه». من الممكن إذاً أن يُنهي البيطار قراره الاتهامي ويتمّم ما عليه، لتبدأ بعدها موجة التشكيك بالقرار لكونه فاقداً للاستجوابات والشرعية.
في كلّ الأحوال، نجحت السلطة في تبديل أولويات اللبنانيين من المطالبة بالحقيقة والعدالة والمحاسبة، إلى المطالبة باستكمال المحقق العدلي لعمله، ثم المطالبة الآن بإعداده ما تبقّى من القرار الاتّهامي، ولو جاء هذا القرار ناقصاً بفعل عدم مثول المدعى عليهم ومحاصرة المحقق العدلي.
4. ماذا يعني كلّ ما سبق؟
يعني أنّ القضاء في لبنان قد عُطّل. انقسم الجسم القضائي، وانتصرت إلى الآن لغة البلطجة. اتّضح أنّ البلطجة مُعمّمة، حتى في القضاء. والبلطجة شكل من أشكال حُكم الميليشيات في ظلّ انقسام المؤسسات. الأجهزة الأمنية مشتّتة، تحمي السلطة خلال الدوام، ويبحث أفرادها عن الوظائف خارجه. ومع سقوط القضاء، يبدو وكأنّ اللبنانيين عادوا إلى آخر أعوام الثمانينات. دولة بمحاور عدّة وبلا رئيس. بلا مؤسسات ولا شرعية ولا قانون. تعاني من انهيار مالي شامل وصعب.
في «ثمانينياتنا» الحالية، كلبنانيين خارجين عن المحاور والحظائر، نحن متروكون وحدنا. صبّت التدخّلات الدولية لصالح السلطة، في «نظريّة» العوف، كما قبلها في اجتماعات قصر الصنوبر عقب المجزرة، وفي تسوية أوضاع أركان السلطة مع الخارج من خلال اتفاقيات ترسيم الحدود. نبحث عن مواد قانونية للدفاع عن أنفسنا، فيأتينا تعسّف لا مثيل له. نطالب بتطبيق الدستور، فنُعطَّل بـ«عيش مشترك» أو «توافق». حتى الهروب عبر الهجرة تعقّد بأزمة جوازات السفر. علق اللبنانيون في الجحيم، ويأملون بوجود حياة أخرى.