حرّك التضامن مع وليام نون بعد توقيفه واستدعاء أهالي ضحايا وشهداء انفجار المرفأ، نهاية الأسبوع الماضي ومطلع الأسبوع الحالي، الجمود الحاصل في القضية. وفي المقابل، وصلت المنظومة، عبر أحد القضاة المحسوبين عليها قلباً وقالباً، إلى درجةٍ عالية من التنكيل بأهالٍ دَفَن بعضهم أبناءهم أشلاء أو حتى أكثر من مرّة. فما محاولة تأديب المطالبين بالحقيقة إلا للتنكيل بالقضية نفسها واستكمال طمس معالمها. في نهاية هذا الفصل، لم تحقّق السلطة السياسية انتصارها النهائي في القضاء على التحقيق في جريمة 4 آب، ولن تحقّقه سوى بقبع طارق بيطار من موقعه. لكنّ السؤال هو عن عودة التحقيق إلى الحياة، وكذلك عن السُّبل القضائية والقانونية والشروط السياسية التي تسمح بذلك.
من التنكيل بالتحقيق إلى التنكيل بالأهالي
لم يعد سعي السلطة إلى تقويض ملف المرفأ مقتصراً على عمل القضاء، بل تعدّاه إلى تقويض حركة أهالي الضحايا.
منذ أن ادّعى المحقق العدلي الأول في الملف، القاضي فادي صوّان على رئيس الحكومة السابق حسّان دياب والوزراء السابقين علي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس، لم يهدأ تنكيل السلطة السياسية بالتحقيق. طار صوّان وعُيّن طارق بيطار مكانه. أعاد الأخير استجواب المدّعى عليهم وادّعى على مسؤولين آخرين من بينهم الوزير السابق نهاد المشنوق، واللواءَيْن عباس إبراهيم وطوني صليبا، وقائد الجيش السابق جان قهوجي وضباط آخرين.
أصدر بيطار لائحة المدّعى عليهم في تموز 2021، فانهالت طلبات ردّ ودعاوى مخاصمة وطلبات ردّ ضد القضاة الناظرين بطلبات الردّ، ثم رسائل وضغوط سياسية، وصولاً إلى تهديد بيطار بشكل مباشر وافتعال «فتنة» الطيونة. ثمّ عرقلت السلطة التشكيلات القضائية، وابتدعت من بعدها «هرطقة القاضي البديل» وقسمت مجلس القضاء، علّ ذلك ينفع.
أتت كل هذه الممارسات بالنفع على السلطة. علّقت التحقيق بفعل كفّ يد المحقق العدلي منذ 23 كانون الأول 2021. أي أنّ فترة عرقلة عمل بيطار تجاوزت مدّة عمله في الملف، إذ عُيّن في شباط 2021 محققاً عدلياً أمضى أكثر من نصفها مكفوف اليدّ. لكنّ انتصار السلطة لم يكتمل، إذ لا يزال بيطار في موقعه وتعجز عن الإطاحة به بالطرق الدستورية والقانونية.
بعد مكسب تعطيل التحقيق، انتقلت السلطة إلى ملاحقة الأهالي والادّعاء عليهم أمام القضاء الذي يُفترض أن يحصّل حقوقهم، علّ ذلك ينهي المطالبة بالعدالة، أو أقلّه يقلب المزاج الشعبي على أهالي الضحايا. وفي الانقضاض القضائي على الأهالي، حقّقت السلطة بعض الأهداف.
مكاسب السلطة من توقيف نون
لعلّ أبرز مكتسبات السلطة في حركة الانقضاض على وليام نون، هو تدخُّل سياسيّين للمطالبة بإطلاق سراحه، ثم تدخّل رجال دين، ما فُسِّر على أنه غطاء طائفي للموقوف والقضية. زكّت ذلك العبارات التي سيقت في الإعلام، ومنها «تدخّلات كنسيّة»، «اتصالات سياسية رفيعة المستوى»، «مراجع قضائية تدخل خط الوساطة». عبارات أشبه ببيادق بِيَد محور التعطيل والعرقلة لإدانة التدخّل بعمل القضاء. وهو ما لم يتأخر أساساً، إذ حرص أعضاء في مجلس القضاء الأعلى، ناطقون باسم قوى السلطة، على تسريب بيان أكدوا فيه التضامن مع القاضي المسؤول عن مهزلة استدعاء الأهالي.
كذلك انتزعت السلطة من وليام نون تعهّداً بعدم التعرّض للقضاء وقصر العدل، ما عُدّ تكبيلاً لحركته وجرأته. ما كان ذلك ليحصل لولا وقوع محامي نون في خط تلبية الدعوة إلى «فنجان قهوة» لدى فرع أمني في يوم جمعة، وهو ما يُعَدّ وصفة لتوقيف المعارضين والناشطين لأيام بانتظار إشارة قضائية لا تصدر عادةً سوى بعد انقضاء عطلةَ نهاية الأسبوع. لكنّ السلطة تمكّنت من انتزاع أمر آخر من نون، وهو شُكر مدير عام جهاز أمن الدولة اللواء طوني صليبا، المدّعى عليه في انفجار المرفأ، بعد إطلاق سراحه. وجاء شكر نون لصليبا كونه لم يتعرّض لأيّ أذىً أو تعذيب، خلافاً لمآثر هذا الجهاز الموثّقة.
مكاسب للقضية والتحقيق
في المقابل، أعادت حركة القضاة المضادّة ضد الأهالي تنشيط القضية. عاد ملف المرفأ والانفجار والأهالي والحقيقة إلى شاشات التلفزة والنقل المباشر. وأعادت الاستدعاءات الناس إلى الشارع. وكشفت مجدداً بلطجة سلطة لطالما كانت مكشوفة في مجمل القضايا الأخرى. كما كُشف اسم قاضٍ جديد ينفّذ مآرب السلطة في الملف، إلى جانب قضاة آخرين أيّدوا فرضية الهرطقة القضائية منذ أشهر، وهم مستمرّون فيها رغم فداحة الموقف. ومع إطلاق سراح جميع المستدعين إلى التحقيق، تبيّن مجدداً أنّ سيف التوقيفات والاستدعاءات مفعوله قصير ولا طائل منه سوى الترهيب، كالعادة.
وفي المحصّلة، فشلت السلطة في مسعى تحويل القضية من قضية حقيقة وعدالة لضحايا الانفجار، إلى قضية صراع بين مواطنين وجسم قضائي. وقد ساعد على وأد هذا الصراع تنصُّل رئيس مجلس القضاء الأعلى سهيل عبّود من البيان الذي أصدره قضاةٌ في المجلس. فتكامل المشهد، وبدا ضحية القتل والتفجير ضحيةً أيضاً للبلطجة وكمّ الأفواه.
مفاتيح عودة التحقيق
بغضّ النظر عن الخسائر والمكاسب، يبقى السؤال الأهم: كيف يعود التحقيق في جريمة انفجار المرفأ؟
للوهلة الأولى، تبدو كلّ مفاتيح الحلّ، فعلياً، بيد السلطة: التشكيلات القضائية، وقف الضغوط على القضاة في الملف، وقف ضغوط القضاة المحسوبين عليها على القضاة المعنيين في الملف، وقف المطالبة بهرطقة القاضي البديل، إقرار التشريعات والتعديلات التشريعية اللازمة لحماية القضاء والتحقيق، وقف حماية المدعى عليهم والسماح بملاحقتهم. كلّ ذلك لن يحصل طبعاً. فالسلطة وعدت بتعطيل التحقيق ونفّذت. طلبت تغيير المحقق العدلي، فلم تتمكّن من ذلك، لكنّها تمكّنت من شلّه.
لكن بموازاة مفاتيح السلطة، يملك رئيس مجلس القضاء الأعلى حلّاً سحرياً يمكن أن يلجأ إليه، وهو فرض تأليف الهيئة العامة لمحكمة التمييز بالقضاة المنتدبين، ما يسمح بالنظر بطلبات الردّ المقدّمة ضد المحقق العدلي. لم يُقدم عبّود على هذه الخطوة بعد، على الأرجح تحسّساً من الأجواء المشحونة أصلاً داخل الجسم القضائي، والانقسام الذي وصل إلى داخل مجلس القضاء الأعلى حيث يحاول أربعة قضاة الانقلاب عليه. ومن يدخل قصر العدل، يعرف جيّداً أنّ السلطة السياسية عمّمت رغبتها بالإطاحة بعبّود، قبل أو بعد الإطاحة بالقاضي طارق بيطار، لا فرق.
بانتظار ظروف قد تسمح لعبّود بالقيام بخطوته، يأمل عدد من أهالي الضحايا بالوصول إلى تحقيق دولي في الملف، علّهم ينتهون من كل المهزلة الحاصلة على حسابهم. لكنّ هذا المطلب يعني أنّ مهزلةً أخرى ستنطلق قد تُدخل البلد في «بازار» التدخلات الدولية وسواها. لذلك يطالب قسم آخر من الأهالي بإهمال فكرة التحقيق الدولي والسعي نحو تشكيل لجنة تقصّي حقائق دولية، تعمل إلى جانب المحقق العدلي، فلا تكون بديلاً عنه ولا رديفاً له.
أين أصبح التحقيق في جريمة انفجار المرفأ؟
استئنافه بحاجة إلى شروط سياسية وقضائية غير متوافرة بعد. لكنّ توقيف وليام نون ثمّ إطلاق سراحه أثبتا أنّ السلطة ليست طليقة اليدين في هذا الملف، وأنّ وصولها إلى مبتغاها في التخلّص نهائياً من التحقيق لا يزال غير متوفّر حتى الساعة.