في مرحلة تستدعي مراجعة أدوات التعبير والمواجهة، اختارت مؤسسة «أمار» السخرية كموضوع لدورتها الأولى من «بينالي أمار»، الذي أُقيم في بيروت، عبر إصدار يوثّق أغاني معارضة من بلاد الشام بين 1920 و1950، خلال زمن الانتدابين الفرنسي والبريطاني. إصدارٌ يجمع بين التوثيق الفني والتحليل اللغوي والموسيقي، بإشراف ديانا عبّاني، وبدعم من السفارة النرويجية ومؤسسة «آفاق». استمرت الدورة على مدار ستة أيام، ضمن ندوات حول الأغاني الساخرة في مصر والجزائر، وعروض أفلام، بالإضافة إلى إقامة فنية ضمّت مجموعة من الفنانين، وعرض فني في ختام الدورة.
السخرية
هناك مثل شعبي قديم كانت تستخدمه جدّتي للسخرية من حماسنا الزائد، كانت تقول لنا: ربك لما حبّ يكّرِد النمل، خلق له جناحات. النمل في هذه الحكاية هو نحن المندفعين، أمّا حرف الكاف في كلمة «يكّرِد» فهي كاف مهموسة بين القاف والكاف باللهجة الفلسطينية. هي بالأصل «يُقرِد» من جنون القرد وحماسه الدائم المبالغ فيه. كان بإمكان جدّتي دائمًا أن تنهانا عن الحماس بكلمات أكثر حزمًا وجديّة، إلا أنّ تحايلها على الموقف كان يدفعنا للضحك، ضحكٍ يدفعنا للتفكير في جدوى حماسنا وشكله، خاصةً ونحن نتخيّل أنفسنا كالنمل «المقرود» بأجنحته.
مضى وقت طويل قبل أن أدرك أن تحايل جدّتي على الموقف إنّما يختصر شرح المعقّد والصعب بكلمات بسيطة، لتكون السخرية وسيلتها التي تتجاوز بها ساعات المواجهة، بمغزى الضحك كونه وسيلةً لمراجعة التجربة. لربّما كان هذا ما دفع الجاحظ لاعتبار الهزل نوعًا من أنواع البيان، كونه وسيلةً لقول ما لا يُقال.
ما يبدو مدهشًا اليوم في استعادة «بينالي أمار» هو أصالة السخرية كوسيلة استنكار مباشرة، لجأ إليها الفنّانون والفنّانات لاستعادة قدرتهم على تبسيط أسئلة الحياة اليومية، وسط تحوّلات سياسية واقتصادية واجتماعية، بأساليب وأنواع غنائية مختلفة مثل الرقص، والاسكتشات، والمسرح، والأغاني القصيرة، والطقطوقة، المتأثرة بأجواء الكباريهات الباريسية، كملهيَيْ «كوكب الشرق» و«الباريزيانا» وغيرهما. عُقدت قرون من المواجهة السياسية والدينية والاجتماعية على هذا البيان، لتكون السخرية وسيلةً للتحايل على السلطات. ومع تطوّر أساليب القمع وقسوة التجارب، ندرك أن السخرية وسيلة للتغيير، وأن التهكّم في وجه الخوف يعني تفكيك أسباب عجزنا ومواجهتها مجدّدًا، ضمن تلاعب لغوي، مباشر أحيانًا، أو مبهم بمصطلحات الناس وأساليبهم، للتحايل على السلطات الاجتماعية أو السياسية/الأمنية.
الأغاني الساخرة
ضمن الأغاني التي شملها الإصدار والندوات التي قدّمتها الدورة، نكتشف عمق التقاطع بين السخرية كوسيلة وأسئلة الهوية والقضايا الاجتماعية، كون المثالية تكمن في قدرتها على تبسيط الموضوع باستخدام لغة ومصطلحات الناس، بأسلوب يضمن الإمتاع والترفيه، رغم أهمية القضية المطروحة. وفي هذا التقاطع انتصار ضمني على المضمون، كون الأغنية الساخرة عملت على تفكيك القضايا برموز مباشرة، بطرائق مختلفة تتحايل على السلطة، إلا أنها تصل إلى المضمون الشعبي داخل الاختيار السياسي.
بالمناسبة، ليست السخرية فعلًا بريئًا أبدًا. ولا أتحدث هنا عن التحايل، بل عن قدرة الفنان الساخر على تطويع لغته لتكون متوازنة بين الموضوع وأسلوب الطرح. في اليوم الأول من الدورة، قدّمت مؤسسة «أمار» فيديو تم إنتاجه عن طريق الذكاء الاصطناعي للفنان عمر الزعني، ليتحدث بشكل مباشر مع الجمهور في بيروت التي غنى لها منذ بدايات القرن الماضي، ساخرًا من حكّامها وساستها. في هذه العودة شيء يتجاوز الحاضر، كون الزعني واجه تعقيد الحياة السياسية تحت الانتداب الفرنسي وتغيّر أنماط الحياة الاجتماعية في مدينة بيروت، بالبساطة التي جعلت كلماته تبدو كأمثال شعبية. وفي هذا انتصار ضمني.
عمر الزعني
رغم تنوّع التجارب التي تناولها إصدار «أمار»، جاء التركيز على تجربة عمر الزعني لما تحمله من تكثيف رمزي لتقاطع الفن الساخر مع الوعي السياسي والاجتماعي في لحظة تاريخية حرجة. لم يكن الزعني مجرد فنان ساخر، بل نموذجًا لمثقف شعبي اخترق بكلماته الحادّة جدران السلطة والرقابة، متحدّيًا المنع والسجن والتهميش. استخدم الفنان عمر الزعني اللهجة العامية اللبنانية، وتحديدًا البيروتية، كمصدر لفظي لكلمات أغانيه، كونه اخترق حجاب الكلام بأسلوب يومي تحايل به على الرموز السياسية، ما عرّضه للاعتقال والحجب الممنهج من قبل السلطة. وهو ما أعلنه في آخر حوار صحفي له مع جريدة «الشعب» عام 1960، والذي أجراه كلّ من الصحافي فاروق الجمال ومحمود بغدادي اللذين سألاه عن غياب صوته:
لماذا لم نعد نسمع صوتك وراء المذيع؟!
وسكت الشاعر قليلاً وكأنّه ينتظر هذا السؤال، ثمّ أجاب:
في العهد البائد، كنت أواجه انتقاداتي المعروفة، فقطعت عنّي الحكومة التسجيل، وأرادت أن تخنق صوتي، لأنّي أسير حسب ضميري الحي، ومن يومها لم أقدّم أيّ نشاط...
العهد الجديد وعدني برجوعي، ولا زلت أعيش على الوعد يا كمّون. فاروق الجمل (1983) عمر الزعني: حكاية شعب، منشورات دار الآفاق الجديدة، بيروت، ص. 475.
قدرة عمر الزعني على ربط السخرية بالالتزام الأخلاقي والمبدئي السياسي، جعلته أقرب إلى الناس، الأمر الذي رافقه حتى لُقِّب بشاعر الشعب، كونه عمل على تفكيك الصورة النمطية السياسية والاجتماعية والاقتصادية، بدون أغطية السلطة وأدواتها، كون الخداع بالنسبة للسلطة وسيلة تمكين، لذلك حاول الزعني تفكيك أدواتها في شعره وأغانيه، ليُعيد المشهد منذ البداية إلى الناس، وفي هذا تشابه كبير مع ما نعيشه اليوم.
يا ضيعانك يا بيروت (1930) المصدر ذاته، 13.
يا مناظر على الشاشة يا خدّاعة وغشّاشة
يا عروس بخشخاشة يا مصمودة بالتابوت
الخواطر مكسورة والنفوس مقهورة
والحرية مقبورة والكلام للنبّوت
الجهّال حاكمين والأرذال عايمين
والأنذال عايشين والأوادم عم تموت.
يا ضيعانك يا بيروت
كما قدّم الزعني أزمة الشارع اللبناني في بداية القرن الماضي، في لحظة انهيار ولا مبالاة سياسية، ليكشف دون مقدمات إلى أيّ حد كان الزعني نموذجًا لفهم حدود العلاقة في فنه بين السلطة والناس، أي ضمن محاولاته الدائمة لاستعادة اللحظة الأعمق لتوجيه النقد، سواء كان لانهيار مفهوم المواجهة لدى الناس، أو لفشل السلطة، ليعبّر عن أزمة المضمون الوطني في شخصيّته الساخرة التي تستمدّ قيمتها من سؤال القيمة أمام القضيّة التي يعمل على طرحها.
الدنيا قايمة والشعب غافل (1918) المصدر ذاته، 140.
الدنيا قايمة والشعب غافل
راحت بلادكم ما حدا سائل
الحقّ عليكم والّا عا مين؟
شوفوا البلايا شوفوا الرزايا
والشعب قايم على الملاية
نسيوا الحماية نسيوا الوصاية
ما حدا فاهم إيه الحكاية
إلى جانب عمر الزعني، يضم إصدار مؤسسة «أمار» ما يقارب 78 أغنية تقاطع القضايا المصيرية بالمجتمع، أسئلة النضال ومضمون الهويّة العربية، معنى الواقع المعيشي ضمن التحوّلات السياسية والاقتصادية، مشهد الحب والعائلة، وتحرّر المرأة وأساليب مواجهته، لفنّانين من بلاد الشام، مثل نجية الشامية وعبد الغني الشيخ، سلامة الأغواني ونوح إبراهيم. جميعهم وجدوا في الفنّ أجوبة تقاطع السياسي بالمجتمع، كون الأسلوب الساخر يتّسع لكلّ هذه المحاولات.
إلا أن المحاولات هي جزء من المصير أيضاً، وهذا لا يعني بداية القرن الماضي فقط، بل تحولات اليوم أيضاً، لا في السياسية وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية، بل بأسئلة المصير الفني للأغنية الساخرة اليوم، وتطوّر أساليب الرقابة والإنتاج الفني، والأهم الثمن الذي دفعه شعراء وفنّانون لقاء محاولاتهم، التي يشكّل رامي عصام، الذي ارتبط اسمه بثورة 25 يناير بأغنية «بلحة» ضدّ نظام السيسي، المثال الأوضح لأغنية الشارع اليوم، والتي مُنع على إثرها من العودة إلى مصر، بينما حوكم الشاعر جلال البحيري كاتب كلماتها في المحكمة العسكرية.
هذا ما يعني، أخيرًا، أن استعادة الأعمال الفنية والموسيقية لا تعني تذكّر التاريخ فقط، إنما هي استعادة لعلاقة الفن مع التحايل والبراءة والرقابة والضغوطات السياسية والاجتماعية، كون التذكّر فعل مراجعة، لا يعني دائمًا الانصياع للتجربة، أو حتى تقديسها، بل إدراكًا عميقًا للأماني والأحلام التي تجاوزت براءتها، وأيضًا في ردود الفعل الفنية التي صنعت من الحدث مادةً للمواجهة.