نقد
سلسلة
زياد الرحباني
هلال شومان

آثارٌ على رمال البلد والذاكرة 

28 تموز 2025

تعيد وفاة زياد الرحباني التذكير بالسؤال الذي يتكرر عند غياب شخصيات عامة لبنانية: معنى رحيلهم في زمنهم اللبناني الذي صنعوه ثمَّ انحسر نحو اتجاه آخر. في حالة الرحباني الخسارة خسارات على أكثر من مستوى. فإذا كان الأخوان رحباني يمثلان الخطاب اللبناني في مرحلة ما قبل الحرب الأهلية، فإنَّ زياد الرحباني هو ممثل خطاب الحابل والنابل اللبناني في فترتَيّ الحرب والسلم الأهليَّيْن، نقدًا ومشاركةً. 


الملحِّن والموزِّع ومطوِّع الأصوات

بدأ الرحباني من قلب عالم أبيه وعمّه («ضلي حبيني يا لوزية»، «سألوني الناس»، «قديش كان في ناس» و«نطرونا كتير»)، لكنَّه سرعان ما رمى بذور انعطافته التلحينية عن الأخوين في مقدمة «ميس الريم» التي يتضح فيها هوسه بمزاوجة اللحن والتوزيع. 

التوزيع عند الرحباني ليس ملحقًا باللحن وتنفيذًا تقنيًا له، بل حوار مع نواة اللحن الأصلية يعيد إنتاجها سهلًا ممتنعًا، ولكن في إطار موسيقي تجديدي يحاول دائمًا الرد على ما سبق من تجارب موسيقية، إما من داخلها (عمله على إعادة توزيع أغاني الأخوين في «إلى عاصي») أو من خارجها (تجربته في بعض أغانيه مع فيروز بدءًا من «معرفتي فيك»).
هذا الإعلاء من مرتبة التوزيع الموسيقي يجعل الصوت واللحن والكلام أدوات في خدمة الأغنية. لكنه على عكس الإنتاجات الموسيقية الهاجسة بمبالغات التوزيع والعزف (كإنتاجات منصور الرحباني الأخيرة وأولاده) يبقى محاورًا مع اللحن والكلام ولا يطغى عليهما. تأتي ألحانه في نتاجها النهائي مصبوبة صبةً غريبة، لا يمكن فصل الميلودي فيها عن التوزيع عن الكلام عن الصوت.
فصوت فيروز يتحول أداةً في «ضيعانو» أو «يا ليلي ليلي» أو مقطوعتي «الأولى والثانية / حبيتك» أو «وقمح»، لكنه أداة تصنع المقطوعة، وبدونها لا يكتمل الناتج. إنه تطويع غريب غير قسري، الرحباني نفسه أبدى استغرابه منه، ولا يعرف كنهه، يحدث بسلاسة تتّكئ ربما على تعقيدات الأمومة والبنوَّة وموهبة الطرفين. فالصوت الفيروزي في تدخلاته الخافتة يُقدَّم في هذه الأغنيات عابرًا من عالم غابر، مُهمهِمًا على ما انقضى أو ما لم ينقضِ مِن فَقْد وحبّ وعيش وأزمان كاملة.
لكنَّ الصوت نفسه لا ينقضي، بل يتحوَّل ويحيا من جديد. ففيروز في أغنيات الرحباني تغنّي وهي تتكلم، وتتكلّم وهي تغنّي. وما إن يسلِّم المستمع بهذا التحوُّل من مقدرة صوتية تتبلس ثوب القداسة إلى خفوت طبيعي، حتى يعود الصوت إلى شرقيَّته، فيردُّ الرحباني على فيلمون وهبي في «كان عندي حنين» و«حبيتك تنسيت النوم» أو حتى «سلملي عليه»، أو يتخذ أبعادًا ميلودرامية في طريقة الغناء («وحدن» أو «لبيروت» أو «كبيرة المزحة هاي»)، أو نزقًا يوميًا كما عندما تغني فيروز جملاً من نوع «مش سامع غنية راحوا» أو «بس كل واحد ببيت».
على عكس ما تُعارف عليه في نقد التجربة، الذي استسهل وضعها قبالة تجربة الأخوين كقاطع «جسر القمر» متخذًا من الكلام (أكثر من الموسيقى) مدخلًا للنقد، فإنَّ هذه التجربة لا تثبت في مكانها الفيروزي/الأخوين رحباني حتى تستمر في ارتحالها إلى أصوات نسائية رديفة أخرى، بدءًا من هدى وماجدة الرومي ومادونا ورونزا، مرورًا بجورجيت صايغ ومنى مرعشلي، وصولًا إلى سلمى مصفي ولطيفة وكارول سماحة، لكنها تبقى في إطار التجارب التي لم تتكرَّس كمًّا.

وحده جوزيف صقر كان مستقلًا في عالم مكتمل مع الرحباني. 


مع توأمه وصوته المستعار

شيء ما توقف بناؤه في عالم زياد الرحباني مع الرحيل المفاجئ لجوزيف صقر. لكأنَّ العالم الزيادي توقف عن الاتساع فجأة، بالأخص شعبيًا، في الموسيقى والكلام. لقد انكفأ الرحباني إلى حميمية شعرية وغنائية في أعماله اللاحقة مع فيروز وسلمى مصفي ولطيفة، وهي حميمية ربما كان دافعها أنَّ كل ما يمكن قوله فنيًا في السياسة والمجتمع العام قد قيل، أو لعلها الخسارة الثقيلة التي لم يتوقف الرحباني عن الإعلان عنها في مقابلاته. فانحسرت موضوعاته إلى انكفاء في غرف الخسارات الغرامية، والتراشق الكلامي المعلن أو المكتوم بين الحبيبَيْن، وإعادة توزيع لأغانٍ قديمة أو نبش أخرى من الأرشيف.

هل كان حضور صقر الطاغي مع زياد وحوله ينتج قدرته على صناعة العمل الشعبي؟

صقر الذي بدأ في مرتبة الصوت العجوز في مبارزاته الغنائية مع مروان محفوظ في «سهرية»، سرعان ما تحوَّل إلى صوت زياد الرجولي المستعار في أغاني المسرحيات، إلا عند غيابه القسري خارج البلد ليغني وقتها سامي حواط معظم أغاني شريط «أنا مش كافر» (1985). 
فبعد «الحالة تعبانة يا ليلى» في «سهرية» (1973)، تتكرَّس في «نزل السرور» (1974) صناعة أغنية شعبية زيادية/جوزيف صقرية في «أنا اللي عليكي مشتاق» و«حن الحديد» مع تلميس أولي وعام على عالم السياسة في «يا نور عينيا». ويستكمل هذا التكريس في «اسمع يا رضا» و«عايشة وحدا بلاك» في مسرحية «بالنسبة لبكرا شو؟» (1978)  قبل أن يغلب الطابع السياسي في «قوم فوت نام» و«يا زمان الطائفية» و«راجعة بإذن الله» بمسرحية «فيلم أميركي طويل» (1980).
يختفي التعاون الغنائي بين الرحباني وصقر في «شي فاشل» (1983) التي عُرضت بعد الاجتياح الإسرائيلي، فيكتفي صقر بدور المختار الهارب من مسرحيات رحبانية ولبنانية أخرى يرندح أبو زلف غير مكتملة، تمامًا كأغنية الكورال الممسوخة التي لا تني تبدأ حتى تتوقف.
الانقطاع الغنائي بين التوأم سيمتدّ لسنوات عشر قبل أن يعاود صقر الظهور في مسرحيتي الرحباني الأخيرتين، ومغنّيًا العتابا في مسرحية الرحباني الأخيرة «لولا فسحة الأمل» (1994). لكنَّ التأطير المستقلّ عن أغاني المسرحيات جاء في شريط «بما إنّو» (1995)، الذي وفَّر لصقر فرصة العودة من جديد عبر العتابا والأغاني التي تتّكئ على السمة الشعبية لأغاني المسرحيات القديمة، ولكن في إطار مجدِّد موسيقيًا.  
وعلى عكس التململ الشعبي وقتها من مسرحيّتَيّ الرحباني الأخيرتين، التفَّ الناس مجددًا حول «بما إنو» التي كانت أغانيه تملأ الشارع والإذاعات والبيوت، لينقطع بعدها التعاون مع وفاة صقر في اليوم الأول من العام 1997.


صانع لغته ولغات الآخرين

لطالما أعلن الرحباني في مقابلاته أنَّ المشكلة الأعوص عنده هي في الكلام المغنَّى.

للوهلة الأولى قد تبدو مثل هذه التصريحات مفاجئة، ولكن الذي يتتبع إسهامات الرحباني يجد أنه يرتاح أكثر في الاستطرادات الكتابية والمقاطعات الكلامية. إنتاجاته الإذاعية بدءًا من «بعدنا طيبين.. قول الله»، ومرورًا بحوار مسرحياته، وصولًا إلى مقالاته المكتوبة توفر مادة غنيّةً لراحته في الاستفاضات الكلامية التي تصيب أحيانًا في وضوحها، أو تبالغ في سينيكيتها حدّ العبث أو الغموض. ومع الاستفاضة، يتّسع المعجم الزيادي حتى يقدّم تراكيبه الخاصة، وتصير لغته هي «لغة الآخرين». يترك الكلام الرحباني كِيتشَه وراءه من دون قصد، فهذه حال كل من يُراكم نجاحًا أصيلًا، ليتكفّل الزمن برَفدِنا بنسخ الآخرين في الأغنية والكوميديا والكتابة والكلام. نسخ رغم ضمور معناها وافتقارها للأصالة، تذكّرنا أنَّ هناك مَن صنع لغةً عابرة تَحلّق حولها اللبنانيون بمختلف مشاربهم حتى باتت سائدة. 

لكن ما الذي يحدث في الأغنية، وكيف تصير هذه اللغة صعبة الإيجاد والنظم على ما يرمي إليه الرحباني في تعليقاته؟

الأغلب أنَّ الرحباني يحترم قالب الأغنية الذي يعمل فيه حتى عندما يجدِّد. فيحاول المواءمة بين ما هو غير متكلّف ولكنه شعبي وشعري ويلائم في الوقت نفسه الاتجاه الموسيقي الذي يسلكه جازًا أو بوسانوفا أو أعمالًا شرقية الطابع. يمكن العودة إلى تعاوناته مع جوزيف حرب وطلال حيدر للعثور على انتقاءاته الشعرية المفترقة عن نصوص الأخوين رحباني. هي انتقاءات تصنع حساسيتها الخاصة، تتسلل بعدها بشكل آخر أقل تعقيدًا في الصنعة في أعمال الرحباني الخالصة. لكنّ انعدام الصنعة التي عند حيدر أو حرب لا تغلب حساسية الرحباني الشعرية التي تبقى ما وراء الكلام العادي الذي يخلف وراءه عمقًا غريبًا (يا ريت بيتك كان منه بعيد، والباب تحت البيت مش حديد).
حتى في تجلياته الساخرة وكلامه المتتابع عندما يفيض، فإنَّ للرحباني طريقة في الموالفة بين السخرية والشعرية (بكتب شعر فيك/ بكتب نثر فيك/ وبكفي../ شو ممكن يعني إكتب بعد فيك؟). وقدرة الرحباني على الاستفاضة تعادل قدرته على الاقتضاب في صناعة المعنى، ومن هنا يأتي سؤال نزار مروة له في كتابه «في الموسيقى اللبنانية العربية والمسرح الغنائي الرحباني» عن «ولا» في «بلا ولا شي»، فمن دون «ولا» لا يكتمل المعنى إطلاقًا. تمامًا كما «ملا إنتَ» في «كيفك إنت»، أو «حبني» الثانية في «حبني، بس حبني» في أغنية «كبيرة المزحة هاي»، أو «لعل وعسى» في «صباح ومسا». إذ يمكن لكلمة أو كلمتين أن تصنع المعنى وبدونها لا يمكن تخيُّل الأغنية. 

أما عندما يصعب الكلام أمام الفاجعة، فإنَّ الكلام يضمر أكثر فأكثر، وتحلّ الأغنية نفسها بنفسها عزفًا وغناءً كما في أغنية «المقاومة الوطنية اللبنانية» بصوتي فاروق الكوسا وفيروز، لتصير اعتذارًا عن الاستخدام الغنائي والخطابي (خلصوا الأغاني هني ويغنوا عالجنوب / كسروا المنابر هني ويصفوا عالجنوب)، وعودة إلى البديهيات (ولا الشهدا قلوا / ولا الشهدا زادوا / وإذا واقف جنوب / واقف بولاده). وعندما تضمر القدرة على الكلام تنقلب إلى مانفيستو موسيقي شرقي بجملة واحدة «ده فيلم أميركي طويل»، أو همهمات عزائية كما في «ضيعانو» المهداة إلى الدكتور عبد الرحمن اللبان طبيب عاصي الرحباني إثر وفاة الأول، أو موسيقىً خالصة كما في مقطوعة «تل الزعتر».


مواقفه ومسرحه: لبنان في أزمِنَته 

تُعتبر «نزل السرور» (1974) مدخل الرحباني للتنظير السياسي. يقدَّم البلد في المسرحية كفندق يستولي عليهم مسلحان ثوريان حيث تصير الثورة مأزقًا للجميع ينبغي الخروج منه بالتحايل على الثوريَّيْن فائضَيّ الغضب. ثورة تجبُّ في انفجارها الفقير والغني والعابر بينهما. 

هذا المدخل كان فاصلًا بين مرحلتين، مرحلة محاولات صناعة مسرحية أخوين رحبانية (سهرية) ومسرحيته التي ستثبّت مساره المسرحي المستقل «بالنسبة لبكرا شو؟» (1978)، وبينهما برنامج «بعدنا طيبين.. قول الله»، فاتحة مواقف الرحباني السياسية المباشرة التي أطلقها مع جان شمعون من الإذاعة اللبنانية عن تجاوزات الحرب الأهلية (بتعبير جوزيف سماحة في السفير) ومعها أهزوجته الأشهر: سوريا بتبعتلك ردع / ومصر بتبعت فلافل / اختلط الحابل بالنابل / سبحان الحي القايل.
حابل ونابل الحرب الأهلية سيتكرر دومًا في مسرحيات الرحباني. سيتغيَّر المكان والموضوع ولكنَّ الفوضى اللبنانية ستبقى هي هي. من سناك بار «بالنسبة لبكرا شو؟» والضغط الاقتصادي الذي تعيشه الشخصيات على إيقاع التداعي القِيَمي تحت وطأة المال، إلى «فيلم أميركي طويل»، حيث ينقلب مصحّ الأمراض العقلية مجازًا عن انفلات عقال البلد ومواطنيه المجانين العقلاء، إلى «شي فاشل» المسرحية عن مسرحية هي مجاز البلد نفسه وإحالة مباشرة إلى المسارح اللبنانية الأخرى التي لا تفارق عوالم الماضي والوهم حد انقلابها كاريكاتوراً في زمن الحرب الأهلية.
في فترة السلم الأهلي، أنجز الرحباني مسرحيّتين هما «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» (1993) و«لولا فسحة الأمل» (1994). في الأولى سأل عن معنى السلم الأهلي ومعنى البلد، وفي الثانية تعمَّق في معنى أن تكون لبنانيًّا لغةً وثقافةً وهويةً.
لم يرد المزاج العام الخارج من الحرب الأهلية أن يسمع هذا الموقف الناقد المباشر والمعادي لمنظومة السلم الأهلي، فالمرآة في أذهان العامة لم تعد مشروخة ولا يجب أن تكون في زمن الإعمار والمضي إلى الأمام. فضلًا عن ذلك، كان حلّ الرحباني لنقد الوضع هو ضبط الفوضى عبر العسكر، فوضى في انفلاتها الجماعي محكومة بعنف الأخلاق الهابطة من السماء على شكل ملاك.
مشروع رفيق الحريري كان التمثُّل الأكثر وضوحًا لنظام السلم الأهلي، كثمرة توافق سعودي سوري أميركي. فانشغل الرحباني في تأييد معارضات داخلية كانت مسموحة حينها. لكن ما الذي حدث بعد اغتيال الحريري؟ هل رحل نظام السلم الأهلي التي كان يعارضه؟ وكيف يمكن أن نشرح موقف الرحباني السياسي حينها الذي اتخذ موقفًا سياسيًا واضحًا مع 8 آذار؟ المدخل الأقرب لفهم موقف الرحباني هو التزامه بموقفه الأممي والشيوعي في عالم الأحادية الأميركية الذي لم يستطع أن يكون معه، ومع انقسام نظام السلم الأهلي إلى حركتين، آثر أن يتخذ الموقف الأقرب إلى قناعاته، بما في ذلك من تبعات إقليمية وعربية في مرحلة الربيع العربي. 
على أنَّ هذا الموقف كان يبقى ثابتًا في العداء لإسرائيل، بينما تتذبذب تصريحاته في اقترابها وابتعادها المتململ من موقف حزب الله بالنسبة للأحزاب الأخرى وتحديدًا الحزب الشيوعي اللبناني (من دون أن يعني ذلك بالضرورة تغييره لموقفه الداعم الذي قد يستعيد له أغنية «صمدوا وغلبوا»). هذا الخفوت في التصريح لاقى خفوت البلد وكربجته في أزماته النظامية، ما يوصل الرحباني للإعلان الواضح والمباشر بأن «خرا عهالجمهورية» (2014) وينشغل في حفلاته الموسيقية في الداخل والخارج.


وداعة النهايات

في أغنية من أغنيات فيروز الزيادية الأخيرة «إيه في أمل» (2010) يبدو المعنى الزيادي مقبلًا على التسليم بالانتهاء والابتعاد عن ماضٍ انقضى لكنه لا يفارق الذاكرة، ماضٍ موائم للمفارقة بين ماضي الأخوين الرحباني (شوف القمح اللي بيطلع بسهول / شوف المَيّ اللّي بتنزَل عَ طُول) وحاضرِ لُطف ووداعة النهايات (وبيضَلّ تذكار عن مَشْهَد صارْ / في خبز في ملح في رِضى / ويوميّة ليل وبَعْدو نهار/ عمري قدّامي عم ينقضى).

إنه «ماضي منيح» (رغم كل ما كان) «بس مضى»، ورغم ذلك لم يمكن للرحباني أن يترك البلد، ولم يمكن للبلد أن يفارقه، رغم إعلانات الرحباني ومخططاته التي تكررت وقالت عكس ذلك. هذه معضلة زياد الرحباني الأساسية التي يتماهى معها كل من شعر بهذا الحزن الهائل عند معرفة خبر موته خارج وداخل البلد. إنها علاقة ملتبسة بالبلد، سامّة وعطوف، مزعجة ومريحة، صعبٌ الفكاك منها، ولا يمكن فهمها. ولعل ذلك الشعور تحديدًا، شعور عدم الفهم، هو الوصف الأقرب لكنه الكيان اللبناني، مرتحلًا من عليائه الأخضر الحلو، مرورًا بفوضاه بحابلها ونابلها، وصولًا إلى برزخ «سلمه الأهلي»، وانتهاءً بموته المؤجَّل إلا لو انتُشِل.

في انتظار ما هو آتٍ وما قد لا يأتي، هل توفِّر وفاة زياد الرحباني إجابة نهائية عن أسئلتنا المتعلقة بالبلد؟ على الأغلب لا. تلك مأساتنا اللبنانية التي نرثها ونتركها لمن بقي خلفنا، مأساة تتسع ولا تكتمل، مأساة البلد الصغير الذي صنعه الجميع حتى وهُم  يهشِّمونه، وفاقت حكايته الأسطورية والناقدة والنزقة والمترفعة عن محيطها والحاضنة له في آن رغم كل العنف، كل ما يحدث وما لا يحدث فيه.

غياب زياد الرحباني هو تذكير مباشر بما كان يحدث ولم يُفضِ إلى شيء، ولهذا فحزننا عليه هو حزن حقيقي على بلد يتسع في اضمحلاله ويتجه مرة جديدة نحو لحظة يقال لنا إنها تأسيسية لكنها تظهر باهتة، وشكلية، ومكررة، وبالغة العنف في انعطافة جديدة. هو حزن على لغتنا التي صنعها لنا والموسيقى والأغاني التي رافقت ذاكرتنا وصداقاتنا وعلاقاتنا. هذا هو في النهاية معنى الفقد. التفكير فيما كان يمكن أن يتسع أكثر، وبما نظنه لم يكتمل، وبنهايات نرغب أن لا تحدث أبدًا. وهذا هو الفقد الشعبي في أندر تجلياته اللبنانية. مشاهد مشلَّعة من الذاكرة تحضر في لحظة رغمًا عنّا عبر كلام أو مغنى أو موسيقى. آثار في الرمال نظنُّ أن حابل ونابل البلد سيمحوانها، لكنها تبقى هناك، لا يمحوها مدّ وجزر. تبقى فنحزن أكثر، لأنَّ ذاكرتنا تأبى أن تخبو فنستعيد بلدًا هو منّا، ونحن والرحباني منه، رغم محاولاتنا المتواصلة الفاشلة لتفاديه وإنكاره والهروب منه. 

رحل زياد الرحباني. نودّعه بوداعة النهايات التي في أغنياته، ويبقى أن نتعرَّف على لبنان في غيابه.

سلسلة

زياد الرحباني

مقالات في وداع زياد الرحباني.

عن مسرحيّ وموسيقيّ وأنتروبولوجيّ مُدهش لم تُسعفه السياسة | نقد
عن أيّ زياد نكتب | تعليق
شوپان على البُزق | نقد
عن الاحتمالات: حسين البرغوثي وزياد وأنا | يوميات
زياد الرحباني: الالتباس الخلاّق | تحليل
زياد الرحباني الذي قاتل من أجل عاديّته | نقد
الابن المُتعَب والأب المستحيل | تعليق
زياد الرحباني بعيون سوريّة | نقد
زياد الرحباني: الصوت والظاهرة  | نقد

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 5/12/2025
70,000 م2 من الأملاك العامة البحرية عادت إلى اللبنانيين بقرار قضائي
ياسر أبو شباب: نهاية عميل
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
04-12-2025
أخبار
حدث اليوم - الخميس 4 كانون الأول 2025 
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
04-12-2025
تقرير
العراق: حزب الله (غير) إرهابي
وقائع اجتماع «الميكانيزم»: المنطقة العازلة أوّلاً