نحن أجيال ورثت لغة زياد الرحباني، هكذا من دون مقدمات ومن دون أية اعتبارات. أجيال تشرّبت كل إنتاجه، من الموسيقى، إلى الكلام، وخصوصًا المسرحيات، من القفشات إلى الاسكتشات وصولًا إلى الشتم وطريقة الكلام ونبرة الصوت. لم يكن معيار الحكم على أيٍّ من أعماله نابعاً من مجرد إبداعه، بقدر ما ارتبط بالموقف الذي يمرّره. تلك الأعمال والمواقف التي أحببناها، أم تلك التي لم نحبّها.
في إبداع زياد الرحباني لا يمكن فصل أي شيء عن أي شيء آخر، إذ تمتزج الموسيقى بالكلام بالموقف بالنبرة واللهجة واللغة، يمتزج الفن بالسياسة، كلها يلفّها نمط واحد من السخرية المعمّمة على كل ما يمكن أن يقوله أو ينقله بعضهم عن لسانه. هكذا هو زياد الذي عرفناه والذي لم نعرفه، الذي لم نعتقد يومًا أنه سيرحل بهذه العجلة ويترك بعض النغم والكلام والنقد والسخرية والسجائر والكحول على الطاولة خلفه.
كنا نختلف عنه ومعه بقدر ما كنا نتماهى معه قبل ذلك، من دون أية تحليلات يستطيع أي فرد منا أن يحجبها أو يؤكدها. فجزء من «خرجيتنا» ذهب بشكل منتظم للاستحواذ على تسجيلاته. كيف لا وهو تلك الخلفية، تلك الهالة التي أحاطت بمراهقتنا حين بدأنا الكلام السياسي، حين بدأنا نتلمّس معنى النقد الاجتماعي. إلا أنه، ومع مرور الوقت، بقي زياد الساخر الذي تتماهى سخريته مع السخرية، وتتماهى كل آليات التهكم عنده مع تهكمية لم نستطع أن نتحملها في أحيان كثيرة، كأن يصحّ أن نكتب عنه وفيه إنه «كائن لا تُحتمَل تهكّميّته».
ترك خلفه تراثاً فنياً وسياسياً ضخماً. هذا ما يعرفه الجميع. لكنه، بين هذه وتلك، ترك أيضاً ذاكرة أعمار المراهقة لكل تلك الأجيال التي أتت منذ أواخر السبعينيات. وعلى مستوى شخصي، ترك الكثير من الأسئلة المعلّقة، خصوصًا ما كان يحيّرني في سلوكه، إذ كنت أميل إلى ربطه بسلوك «جون لينون» أحد مؤسسي فرقة «البيتلز»، لا سيما في طريقة تعامله مع الآخرين، مع المارّة، مع الناس، مع أولئك الموجودين في المطاعم والحفلات حيث يعزف. حسبت أنه يحاول إبعادهم عنه في تأكيد منه على اختلافه عنهم، بما يوحي وكأنه يكرّس إبداعيّته ويؤكّد عليها. لكنني الآن انتبهت إلى تفصيل آخر، إلى إجابة محتملة، شيء لم يكن بالحسبان، وهو أنّ زياد كان يقاتل لا ليتمايز، بل لكي يتماهى وينتقل من كونه ملكية عامة إلى كونه ملكية خاصة، كجميع الآخرين. كان يقاتل من أجل حياته العادية التي تتشابه مع حيواتنا. فيحاول أن يقول إنني شخص، كائن بسيط، له خصوصيته كما له إبداعاته. كأن يقول ويؤكد من دون أن تتحرك شفاهه، أنا أقاتل من أجل حياتي أيضًا، من أجل عاديتي، وأمارس حقي في أن أكون مواطنًا يسير في الشارع، يتناول منقوشة، يشرب فنجان القهوة، دون أيّ تطفّل. فهو العادي جدًا حين يحاول انتزاع ما يخصّه من بين الحشود، ذلك الكيان الخاص الذي لطالما حاول الناس مصادرته. وحتى حين كان ينجح في ذلك، كانت فردانيته تتحول إلى تيار، إلى هويّة، وسرعان ما تُنزَع من سياقاتها.
لطالما أكدّ زياد على ذلك التمايز وعلى تلك الفردانية ضمن عائلته الصغيرة وعائلته الكبيرة أيضًا وأيضًا، عن المدرسة الرحبانية التي وسمت مرحلة طويلة من الموسيقى اللبنانية. فبينما سحرتنا ألحانها وكلماتها وذهبت بنا إلى خارج الكون وإلى يوتوبيات مفتوحة على مصراعيها، أعادنا زياد إلى الآن والهنا، أعادنا إلى هذا الواقع، هذا الزمان وهذا المكان. قال لنا المفتاح هنا، الأساس هنا، في هذا الواقع القاتل وفي لغتنا العادية التي يمكن لنا أن نعبّر بها وأن نقول، أن نغني، أن ننكسر وأن نبحث عن حلولنا. وعلى المنوال ذاته، ومن دون أية مقدمات، أعاد فيروز من النجوم إلى يومياتها ويومياتنا، عبر هذه الحيلة وفي سبيل تلك الغاية التي أخذ الكثير من الوقت ليفهمها بعضنا لغويًا وشعريًا وموسيقيًا. أعاد فيروز إلى عاديتها كامرأة مماثلة لجميع النساء، تحب وتبغض، تحقد، تعيش في هذا العالم بكامل إنسانيتها.
رحل زياد اليوم، كأيّ فرد آخر، وأعاد فيروز مرة جديدة لتؤكد على شخصها كامرأة تحزن ولا تحلّق بين النجوم بشكل مستمر. رحل نتيجة وضع صحي عادي جدًا يؤدي إلى موت ملايين الناس، كالآخرين الذين يرحلون في صمت أو ربما في سخرية وتهكّم. لكنه أخذ معه الكثير من الكلام ومن الصمت أيضًا، وترك لنا ما يتخطى الإرباك. «فلّ» زياد وبحوزته الكثير من المعاني ومن الاحتمالات، وحتمًا الكثير من الأحرف، فتركنا في غموض المرحلة، متخبِّطين في بحر من الموسيقى التي أصبحت مجرّد موسيقى، وفي بعض الكلام، الذي أصبح مجرّد كلام.