نيالك عرفتيه هوّي وعايش، أقول لصديقتي عندما أتأمّل صورة قديمة لها في NOTTA STUDIO في الحمرا. بمتل هالأوقات بندم اني تركت لبنان. فتُجيبني: ما تندمي على شي، زياد نفسه كان يقول: يلّي بعده عايش بلبنان، راسه بالشمس وإجريه بالخـ**.
هل ندم زياد على بقائه؟ لا نعرف... هو اختار البقاء ورحل في مدينته متخفّفاً زاهداً، غيرَ مساوم، وفيّاً لنفسه ومبادئه المقاوِمة ولو كره الكارهون. وهو على الأقلّ، وكما أراد، لم يغيّره البلد ولم ينتزع منه إيمانه بالقضايا العادلة. رحل زياد مع إصراره على بقائه ملتصقاً بالناس وبحياتهم اليومية وأماكنهم العادية، حتى لو اعتلى أعرق المسارح. يقول في مقابلة إنه يفضّل زكريا أحمد وسيد درويش على رياض السنباطي، لأنه من جماعة «المناقيش»، أي من جماعة الشعب. طبعاً!
أرى صوراً له على الانترنت يشاركها البعض من جلسات عفوية في منزله، في مقهى، في إذاعة صوت الشعب... يا للألم، ويا لحظّهم. منذ لحظة إعلان الخبر امتلأ النيوز فيد بعشرات التقارير والفيديوهات والمقالات والمقابلات... خبراء في موسيقى زياد ورفقاء له في السياسة والفنّ ينعونه. كتّاب وشعراء ينزفون من هَوْل المأساة، فتنضح أقلامهم بنوح عجيب... ماذا أعرف عنه أنا؟ ليس أكثر من باقي أبناء جيلي. لن أكتب عن عبقرية زياد وأثره الكبير في جيل الحرب وما قبلها وبعدها. لا يسعني سوى أن أكتب عمّا خلقته الحالة الزيادية، وهي مختلفة عن الحالة الرحبانية بطبيعة الحال، في وجداننا الموسيقي والسياسي والعاطفي، وذلك من خلال زاوية شخصية غير موضوعية. شذرات بسيطة، حكايات قد لا تعني شيئاً ولكنها تعني الكثير، فتات ذكريات جعلتها مُلكي.
في آخر زيارة إلى بيروت، ذهبت مع صديقتي إلى حانة «أبو إيلي». دار الحديث عن موسيقى زياد وصارت منافسة بين من يعرف نوادر له لا يعرفها الآخرون... الفائزة صديقتي التي تملك تسجيلاً أعطاها إياه، وهو نسخة لألبوم غير مكتمل التوزيع وغير منشور. أذكر حماستها عندما كنّا في أول العشرينات من عمرنا، وكيف حكت لي ظروف لقائهما الطريفة في Club Social. أذكر أيضاً غضبها منه لأنها صعدت على المسرح بفستان قبيح وبدون أي تحضير لدورها... أذكر في باريس هوسَنا بحفلاته وكيف كنّا نشاهد - قبل يوتيوب- شريطاً مسجّلاً لحفل Da Capo على مسرح قاتم بظلاله السوداء والزرقاء.غرقتُ آنذاك في المسرح والشاشة لدرجة إني حسبت صالون منزلها أسود وأزرق... وانطبعت عندي الذكرى ملوّنة بهذين الطيفين، إلى أن تصحَّحَت المعالم. بين أغراضها صُوَر وأرقام هاتف مدوّنة على ورقة صفراء ونصوص مسرحية وعناوين كتب، منها «هل يمكن أن نكون شيوعيين اليوم؟» لروجيه غارودي. ذكّرتُها بقميص قديم كانت قد نسيته، هدية عفوية من زياد، استحلاه لأنه «صرعة».
ماذا أقول، عن أول مرة سمعتُ فيها زعلي طوّل أنا ويّاك وعرفت ما هو الشجو أو اللهف، أو ما يوصف بالفرنسية بـchagrin d’amour، قرب الرملة البيضا، مساءً بين أضواء بيروت. ماذا أقول عن الدهشة، عندما اكتشفت أسطوانة هدوء نسبي وصوت البزق الغامض، مع نوتات البيانو التي تشبه فقاعات ملوّنة، بصمات غربيّة على إيقاع الوحدة الكبيرة الطربي، في محاولة صنع موسيقى شرقية بلغة يفهمها العالم... موسيقى لا هي شرقية ولا غربية. هذا الشعور بالصحوة الذي رافق معزوفة أبو علي. الدوران المنكوب في وقمح. الفقدان الذي ينطق في ضيعانه. فاجعة المجزرة المحوَّلة نغماً في تل الزعتر. الفرح المطلق في شيراك. جُمَلٌ له ومن مسرحياته حفظناها لنشبه ما نريد أن نكون، مشاهد حيّة في أذهاننا لكلّ منا نصيبه منها.
صباح رحيله كنت أعزف على العود سألوني الناس، فكان وقع الخبر أليماً بشكل حادّ، وخاصّة في وسط أخبار المجاعة. بكيت وبكيت… عمّن أكتب كموسيقيّة؟ عن زياد الـjazzman أو زياد الطليعي المجدّد مع تشبّعه بالكلاسيكية؟ عن الـgospel funk في سيدي أعطنا من هذا الخبز، أو عن البزقجي الأصيل وهو يعزف «الحلوة دي» في فيلم «نهلة» (ولا تعليق على حلاوة خدني معك يا حب). زياد العربي البلدي في سهرية وبالأفراح (أحبّ قصقص ورق لأنها من أولى المعزوفات التي تعلّمتها على العود)، أو زياد البلوز والميلانكوليا إلى حدّ الكمد في حانة Blue Note، يعيد فيها إحياء جو سامبل وsaudade جوبيم البرازيلي. وعلى عكس ذلك، زياد الضاحك والراقص طرباً على يا بنت المعاون في حفلة بدمشق.
وماذا لو استمعنا إلى موسيقى زياد، ليس لكونه المؤلّف البارع ابن فيروز وعاصي، أو الكوميدي الساخر أو العازف الفذّ، وإنما لكونه أيضاً وحسب المقرّبين، إنساناً بمنتهى الرهف والإحساس والاهتمام بأدق التفاصيل إلى درجة الهوس، زياد الغارق في الوحدة والانعزال، والذي عانى في الحب وفي الفن، على الرغم من كل الأخبار التي تناولت حياته الشخصية. زياد الذي رأيته في حفلة حضرتها، وقد وضع على الكيبورد كأس نبيذ ليسكر وفنجان قهوة ليصحو! ربما نستمع إلى موسيقاه من زاوية أخرى تشبهنا، انعكاسٌ موسيقيّ حميم في مرآة صافية.
شاركتني صديقتي رسالة قديمة أرسلها زياد بالفاكس (فاكس!)، كتبها بخط يده بعد حديث هاتفي معه: ماذا ستكتب لو طُلب منك تأليف requiem أو ملحمة عن بيروت؟ أحاول فكّ خطّ زياد. خطّه جميل وصعب الفهم، مثل المدينة نفسها. بيروت، حبّي،[…]، أخذتيني إلى الحياة كما الموت دون هوادة. على امتداد ليالٍ كثيرة، تساءلت أمام خرابك، في رمادك. كنت مدعوّاً لِألاقي نفسي والآخَر! معك تعلّمت أن أتخطّى الظلمة… أقرأ هذه الأسطر، قدّاس لم تكتمل طقوسه، آثار على الرمال لماضٍ نحنّ إليه، ماضٍ لم ينصفه بالكامل ولم يكن أجمل من حاضرنا، إلّا لأنّ زياد وأمثاله عاشوا فيه، وكوّنوا من تجربتهم ذاكرة نابضة ومتكاملة الأبعاد، كانت المعاناة أيضاً جزءًا منها وفيها، وامتدادها عبر رحيله أيقظنا من غيبوبة وجودية، وذكّرنا بنفسنا وبحزننا. صفعة تقول لنا إنه «في أشيا كتيرة راحت، ما بقى تنردّ، الوقت الباقي عم نجرّب نستفيد منه بقدر الإمكان... هلق ما بقا فينا نردّه هالوقت لي راح، والعجز قدّام هالوضع بيشبه الموت». ولكن زياد أبعدَنا عن الموت قليلاً، وأعادنا إلى الحياة، كثيراً.
وفي نهاية المطاف، لاقى زياد نفسه ولاقى الآخر.