باسم الآب والابن
ربّما لأنّ صفة الابن لازمته حتى رحيله، من الصعب أن يتخيّل المرء أباً حين يتحدّث عن زياد الرحباني. فمهما أُطلِقت عليه من صفات ومدائح، كالعبقريّ، والمتمرّد، فإنّه يبقى دائماً ابن عاصي وفيروز.
رغم ذلك، كان زياد أباً لأكثر من جيل. كثيرون تعلّموا منه ما يتعلّمه الأولاد من آبائهم: اللغة، طريقة التفكير، الذوق، نمط الحياة... وكما يفعل الأولاد مع آبائهم، منهم مَن بقي ينظر إليه كمثال أعلى، ومنهم من ابتعد عن صورة أبيه. لكن من النادر أن تجد له أولاداً عاقّين ينكرون فضله عليهم.
لم يكن زياد يملك مالاً، لكنّه فعل كما يفعل الآباء، ووزّع ميراثه قبل أن يرحل، فحصل كلّ ولد على حصّةٍ من زياد الموسيقي أو زياد الشيوعي أو زياد الفكاهي أو حتى زياد المُرتِّل… ومنهم مَن اكتفى من زياد بتلعثُمه وجُمله المبتورة، أو بموقف سياسيّ عابر.
لكنّ زياد، قبل أن يكون ابناً وأباً، كان شخصاً مُتعَباً، متعَباً غالباً من هذَيْن الدَّوْرَيْن. عرفنا ذلك مؤخّراً حين رفض الدخول في دوّامة زراعة الكبد، مستسلِماً لاستسلام جسده، لكنّه أعطانا قبل ذلك أكثر من إشارةٍ في أعمال تخيّل لنفسه فيها سيرةً مختلفة، لم تقف عند حدود سخريته الدائمة أو إيمانه الأيديولوجي ومواقفه الحادّة.
عازفة البيانو الصغيرة
في إحدى حلقاته الإذاعيّة من برنامج «العقل زينة»، كتب زياد الرحباني سيرةً ذاتيّة متخيّلة أو مرتجاة. تحدّث عن صوت بيانو يأتي من مكان ما، ليخترق عجقة الحيّ في بيروت الحرب الأهليّة. حاول زياد أن يتخيّل مصدر الصوت، فقرّر أنّ العازفة هي بنت زغيرة وضعيفة عمرها تسع سنين ونص. ليست عازفةً محترفة، لكنّها على الأقلّ عم تتعلّم عشي منيح بهالحيّ.
يسأل زياد نفسه: مش أحلى هالبنت من تجمّع اللجان والروابط المعادي للإمبريالية والصهيونية؟ مش أحلى هالبنت من مسودّة مشروع اقتراح احتمال إمكانية حلّ لدستور نظام معيّن يوماً ما للبنان الجديد؟، قبل أن يُبدي حسرته كونه مضطرّاً لإضاعة وقته والاستماع لتلك المسودّة من راديو صوته متل الصوص. أمّا هي، الفتاة العازفة، فـإذا كبرت وضلّت عم تدقّ بيانو، قديش بتصير عظيمة… هيدي اذا سألتها عرفتي شو صار بالـ83؟ رح بتقلّك كيف؟ عفواً أنا ما كنت. لكنّها، كما يقول زياد، كانت هيي، أنا بعرف، أنا سمعتها، بالحي عنّا كانت… بس كانت عم تدرس بيانو.
Made By Micha
بعد انتهاء الحرب الأهلية، أعاد زياد الرحباني كتابة سيرته المتخيّلة، لكن هذه المرّة على شكل مسرحيّة عنوانها Made By Micha. يقول زياد إنّه كتب 400 صفحة عن عازف يسكن في بيروت الغربية ويحلم بتلاميذ يطرقون بابه ليتعلّموا العزف على البيانو. لكنّ المسرحية لم تُبصر النور.
فكما اضطرّ خلال الحرب للاستماع إلى مسودات مشاريع الحلول على الراديو، اضطرّ أيضاً للتخلّي عن فكرة المسرحيّة. ظنّ أنّ الناس، كأولئك التلاميذ الذين انتظرهم العازف، لن يأتوا. فهُم ينتظرون من مسرحه تقريراً عن أحوالهم ومستقبلهم. أليس هو نبيّهم الذي أخبرهم أنّ الحرب الأهلية قادمة في مسرحية «نزل السرور»؟ أليس هو مَن أخبرهم أنّ الحرب راجعة في «فيلم أميركي طويل»؟
تخلّى زياد عن مسرحيّته، وقدّم لجمهوره «بخصوص الكرامه والشعب العنيد» (1993) ثمّ «لولا فسحة الأمل» (1994). وبدلاً من العازف المنتظِر، ظهر زياد بلباس ضابط.
أفلاطون
في العام 1996، أصدر زياد الرحباني ألبوم «بما إنّو» لجوزف صقر، والذي ضمّ عدداً من الأغاني النقديّة والساخرة. لكنّ زياد، في هذا الألبوم، يعود مرّةً أخرى إلى سيرته الذاتيّة عبر أغنية «أفلاطون» التي يراقب فيها العصافير من شبّاك منزله. يُبدي زياد غيرته من الطيور التي تجوب الكَون بينما هو علقان بنفس الغرفة، مفكّر حالي أفلاطون. يصحو زياد من تأمّلاته على صوت اتصال، فيقول متذمّراً: واحد طالب أفلاطون. هو مفكّرني أفلاطون. كأنّه لا يسخر وحسب من الصورة التي يرسمها له الآخرون، بل يسعى أيضاً لتدميرها على مسمع منهم.
«خدني معك يا حبّ»
في أكثر من مرّة، انتصرت سيرة زياد التي نتوقّعها على سيرته كما أحبّ أن يتخيّلها. وساهمنا كلّنا، نحن الأجيال التي نشأت على مسرحيّاته وأغانيه، في تكريس تلك الصورة. لم نصدّق الساكسوفون في «أبو علي»، ولا الماندولين في «إيه في أمل»، ولا البيانو في «نفَّد عبكره». أردناه نبيّاً وقائداً. ثمّ خرج كثيرون منّا عن طاعته، وما عدنا نصدّق وصاياه، إلى أن توارى هو نفسه، وبدأ بالتلاشي.
مع رحيله، ربّما يكون زياد- الفنّان والسياسيّ- قد قبض أخيراً على سيرته. يعزف البيانو لينتصر على ضجيج الحيّ، ينتظر تلاميذ في شقّته في شارع الحمرا، ويسافر مع أسراب من الطيور. هكذا يتحرّر زياد أخيراً منّا، ونتحرّر منه.