نصرالله يطلق النفير العام
في أحد خطابات ليالي عاشوراء، أطلق أمين عام حزب الله حسن نصرالله النفير العام لمواجهة ما سمّاه «الشذوذ». لم تكن المرة الأولى التي يتعاطى فيها نصرالله مع المثلية، لكنّ خطابه الأخير هو بلا شكّ الأعنف. الكلّ، حسب نصرالله، مُطالب اليوم بمواجهة هذا المنكر «العظيم القبيح البشع المدمّر»، هذه الممارسات التي تشكّل ذنباً كبيراً، عقابه جهنم. وإن لم يكن ذلك كافياً، فقد قالها نصرالله بصراحة: «في حالة اللواط من المرّة الأولى حتى لو كان عزّابي يُقتل». إنّها معركة تتطلّب إذاً توحيد جهود الجميع، أي العائلات المسيحية والإسلامية، لمواجهة هذا الخطر المستورد من الغرب. إنها معركة «أعراضنا وشرفنا وأخلاقنا وأولادنا وبناتنا ومستقبل عائلاتنا»، وقرّر حسن نصرالله أن يترأسها.
لم تبدأ هذه الحملة التحريضيّة بخطاب نصرالله. بدأت بتغريداتٍ متفرقة، بمؤتمرٍ مجهول الهوية، باستعراضات واسترجال «جنود الرب»، وبحالة هلع مصطنع في وزارة التربية. كانت هذه الحملة، كسائر حالات الهلع المفبركة، متعدّدة المصادر، تغزو التلفزيونات وشبكات التواصل الاجتماعي لتخلق صورة خطر داهم، مجهول المعالم، صورة «الوحش المثلي» الذي يسعى لتدميرنا وتدمير عائلاتنا. وقد تجاوبت السلطات الرسمية لهذه الحملة غير الرسمية. وجاء نصرالله، المتابع لهذا الموضوع منذ «عشرين ثلاثين سنة» ليطلقها حملة سياسية جامعة، أولى تجلياتها حملات «مقاطعة» للمثلية على مد النظر.
القيَم آخر ملاذ السلطات المنهارة
شدّدت هذه الحملة على خطرٍ ما سيأتي من المثلية. بدت غريبة ومفتعلة، شأنها فقط أن تُطلق حالةً من الهلع حيال خطرٍ داهم يهدّد العائلات والأطفال. قد يبدو بديهياً تفسير ما يجري كمحاولةٍ من أحزاب وسلطات منهارة لتحويل الأنظار نحو خطرٍ متخيّل، قد يتوحّد الجميع حوله ويتركونها وشأنها. ولطالما كان رهاب المثلية الخيار الأسهل لما تبحث عنه السلطات المأزومة.
لكنّ الموضوع لم يعد مرتبطاً فقط بعثور السلطة على كبش محرقة. تعبّر هذه الحملة، بالإضافة إلى وظائفها السياسية، عن قلق «رجال السياسة» وفقاعاتهم حيال وقائع اجتماعية ما عادوا قادرين على تجاهلها أو ضبطها بالقيود والأعراف الاجتماعية. وهذا من أوضح ما أظهرته لحظة «الثورة» كلحظة تعبير عن انكسار اجتماعي وجيلي، يمتد بأشكال مختلفة إلى سائر مكوّنات المجتمع. وجاء الانهيار ليضرب أسس المجتمع التقليدية ويفتّت الانصهار المجتمعي. فلم يعد لـ«نصرالله الأب» ما يقدّمه إلّا التهويل والتخويف والتحريض ليضبط «الأبناء والبنات» ضمن مؤسسة العائلة.
الإلهاء عن شيء، لكن أيضاً التأسيس لشيء
صحيح أنّ هذه الحملات تشتدّ في لحظات الانهيار. صحيح أيضاً أنّها تحتل الحيّز الأكبر من العالم الافتراضي والإعلام ونقاشات نهار الأحد. صحيح إذاً، أنّها «تلهي»، لكنّها مع ذلك تتعلّق بمسائل قائمة بذاتها، لها وجودها الفعلي المُستقلّ عن الشيء الذي تُريد الإلهاء عنه.
فإضافةً إلى الإلهاء، تُكرّس هذه الحملة أُسس النظام الأبوي، تكرّس مسؤولية «الراشدين» على أجساد «القصّر»، تكرّس سلطة الأهل على التحكم بأهواء أبنائهم الجنسانية، وتكرّس ما هو «المقبول» و«غير المقبول». وهنا السؤال: مقبول نسبةً لِماذا؟ ولِمَن؟ ولأي شكل من أشكال العيش؟ والجواب المختصر هو تحديد المقبول أو اللازم لاستمرار البنية الحالية للمجتمع: بنية تُرفد هذه الأحزاب بالمناصرين، تتقبّل السلطة بكافة أشكالها، ولا تُمانع الإنجذاب نحو جرائم القتل أو التحرش أو الاغتصاب أو الزواج المبكر، كما اقترح نصرالله، لكنّها تمانع، في نهاية المطاف، أي علاقة جنسية حرّة خارجة عن السلطة الأبوية.
أحياناً، تطوف بعض الإشكاليات على الواجهة، بلا أي حاجة لتحليلٍ عميق: مثل تزامن الحملة ضدّ المثلية مع الحملة ضدّ اللاجئين؛ ومثل أنّ من يقف خلف الحملتَين واحد. هي الأحزاب والجماعات نفسها، التي وجدت عبر هاتَين الفئتَين المهمّشتين مدخلاً لإعادة تكريس ما اقتُطع من هيمنتها… أحياناً، تطفو بعض الإشكاليات إلى الواجهة، بلا أي حاجة لتحليلٍ عميق: مثل تزامن الحملة ضدّ المثلية مع الحملة ضدّ اللاجئين، وتقاطع هاتَين الحملتَين مع أسوأ انهيار اقتصادي عرفته البلاد.
الانجذاب إلى الغرب في لحظة رفضه
يقترن الهجوم على مجتمع الميم-عين بهجوم على ما يعتبره أصحاب هذه الحملة كمصدر الخطر والشر المطلق، أي «التمويل الخارجي». تتصاعد منذ فترة حملة على الجمعيات التي «تروّج» للمثليّة، وهو أيضاً مفهومٌ مغلوط لأنّ المثلية موجودة، بشكلٍ تلقائي وعضوي. وما يحدث ليس ترويجاً لها، بل تظهير لما هو موجود بشكلٍ مخفي. تتّهم الحملة مصادر تمويل هذه المؤسسات باستيراد أفكار وقيم خارجة عن «مجتمعنا». إذاً نرى في هذا الهجوم اصطفافاً واضحاً ضدّ الغرب و«قيمه»، لكنَّ المشهد الحقيقي لا يتطابق مع هذا الاصطفاف.
ما لم يلحظه نصرالله ورفاقه الحريصون على السيادة والأخلاق هو مدى تماهيهم مع الحملة التي تسيطر على الدول الغربية ضدّ تصاعد الخطاب النسوي والحقوق والحريّات الشخصيّة واحترام أفراد مجتمع الميم-عين. فخلال السنوات الأخيرة، برزت ردّة فعل عنيفة حاولت عبثاً إعادة فرض هيمنةٍ ذكورية تقليدية على مجتمعاتٍ أسقطت فكرة المجتمع الموحّد المتجانس، وأكّدت على شرعيّة المجتمعات المصغّرة التي خرجت عن نظام القيم البطريركي. تقاطعت الحملات الهوموفوبية الغربية مع الشرقية، في ظل تنامي كرهٍ وحقدٍ واحتفاءٍ بالعنصريّة ضدّ ما يسمّى بالهجرة غير الشرعية واللجوء، وباتت هذه التوجّهات منبعاً ونقطة انطلاق أساسيّة لليمين الجديد. يتنقّل هذا الخطاب بين بوتين وترامب وغيرهما من أبواق اليمين الجديد، ويحطّ عندنا، فيستردّه نصرالله. تحوّل نصرالله إذاً إلى «مؤثّرٍ» من المنظرين الجُدُد للرجولة، يخوض معركة التسمية ويرفض العلم ويطالب بمقاطعات المحلات.
من السذاجة إلى القتل
خطورة «الحملة»، أو «الخطاب»، ليست فيها فحسب، بل في تلقّفها من الجمهور، أي في الفعل الذي يلي الكلام. وقد يتراوح هذا الفعل بين طرفَين متناقضَين: السذاجة، والقتل.
ومن الطريف تتبّع المسار الذي يسلكه هذا الفعل، والذي يصل أحياناً إلى حدّ السذاجة، مثل أن يطارد البعض عبوة مزيل للرائحة في صيدلية أو كيس شيبس في دكان، بينما يطارد البعض الآخر قالب حلوى. تنتهي حملة الترهيب التي أطلقها نصرالله بشيءٍ على شاكلة «لا لمُزيل الرائحة / لا للـcup cake».
غير أنّ السذاجة تقتل أحياناً، وقد تنتهي حملة الترهيب بالحدّ الذي وضعه نصرالله: «في حالة اللواط من المرّة الأولى حتى لو كان عزّابي يُقتل». بعد هذه الجملة، لم يعد هناك مجال إلّا لمواجهة ماكينة القتل بما لدينا من إمكانات، ماكينة قتل ستزيّف خطراً كلّما احتاجت لكي تحتوي قلقها وأزماتها.