القانون
لا يمكن الفصل بين جملة الخطوات التصحيحيّة الجذريّة المطلوبة في بنية النظام الاقتصادي اللبناني، ومسألة تعديل قانون السريّة المصرفيّة. فتعديل هذا القانون، وحده كفيل بتحقيق ما يلي:
- منع كبار المتموّلين من التهرّب الضريبي، تحت ستار الحسابات المصرفيّة التي لا يمكن للسلطة الضريبيّة الاطلاع عليها، أو ربطها بداتا التصريحات الضريبيّة. وتاليًا، فتح المجال أمام سياسات إعادة التوزيع، عبر الضرائب التصاعديّة التي تستهدف هذه الفئة بالتحديد.
- منع المتورّطين بالجرائم الماليّة وقضايا الإثراء غير المشروع من الهروب من المحاسبة، وهو ما كان يجري عبر منع القضاء من الوصول إلى حساباتهم المصرفيّة، وربط داتا الحسابات بالتحقيقات القضائيّة.
- منع المصارف من الهروب بمخالفاتها من لجنة الرقابة على المصارف، تحت ستار السريّة المصرفيّة التي تمنعها من كشف داتا الحسابات بشكل جماعي.
- منع حاكميّة المصرف المركزي من المضي قدمًا في العمليّات المشبوهة التي تصب في صالح القلّة المحظيّة، على غرار الهندسات الماليّة، والتي لطالما استفادت من ستار السريّة المصرفيّة الذي يمنع كشف داتا حسابات كبار المودعين.
المصالح
وإذا أردنا فهم حجم استفادة جميع هذه الفئات من ستار السريّة المصرفيّة، تكفي الإشارة إلى رقمين لتوضيح كميّة المصالح المرتبطة بهذه المسألة:
- لم توافق هيئة التحقيق الخاصّة التي تحتكر حاليًّا حق رفع السريّة المصرفيّة عن أي حساب، إلّا على 36% من مجمل طلبات رفع السريّة المصرفيّة التي وردتها بين عامي 2008 و2020، والتي غالبًا ما ارتبطت بالتحقيقات المتعلّقة بالجرائم الماليّة.
- لم يصل إلى هيئة التحقيق الخاصّة إلّا نحو 11 طلباً لرفع السريّة المصرفيّة، على خلفيّة التهرّب الضريبي. وهذا الرقم كفيل بإظهار حجم استهتار السلطة الضريبيّة بتتبّع حالات التهرّب الضريبي، انطلاقًا من داتا المصارف، ربما بفعل تمادي هيئة التحقيق الخاصّة بعدم التعاون إزاء هذه الطلبات.
هكذا، يصبح من الواضح حجم المصالح المرتبطة بموضوع السريّة المصرفيّة ودرجة اتصالها بكبار النافذين سياسيًّا وماليًّا في البلاد. ولهذا السبب بالتحديد، بات من الأكيد أن مشروع القانون الذي أرسلته الحكومة إلى مجلس النواب، والرامي لتعديل قانون السريّة المصرفيّة، سيمثّل شرارةً لمعركة تشريعيّة كبيرة، تُدافع فيها لوبيات نيابيّة مؤثّرة عن مصالحها في وجه مشروع القانون. مع الإشارة إلى أن الحكومة لم ترسل مشروع القانون هذا إلا تحت وطأة ضغط صندوق النقد الدولي الذي اشترط إقراره قبل الموافقة على دخول لبنان في برنامج قرض معه.
الثغرات
ورغم أهميّة الشروع بمناقشة مشروع القانون، وحماية التعديلات المقترحة من هجمة النافذين الذين لا يملكون المصلحة في إقرار هذه التعديلات، من المهم الإشارة إلى بعض الثغرات في مشروع القانون الذي يُفترض أن يسعى المشرّعون –الحريصون على مصالح المجتمع- إلى معالجتها:
- أبرز هذه الثغرات هي صلاحيّة الجهة التي يُفترض أن تحاسب المصارف على مخالفاتها للقانون، والتي تم تحديدها وحصرها بالهيئة المصرفيّة العليا. وهذه الهيئة بالتحديد، ينطوي عملها على شوائب كبيرة، نظرًا لتضارب المصالح الناشئ عن ترؤّسها من قبل حاكم مصرف لبنان، وحجم الصلاحيات المنوطة بالحاكم داخلها. من الناحية العمليّة، يحيل القانون البتّ بعقوبات المخالفات إلى الجهة التي يُفترض أن يتم مراقبتها، أي الحاكم المسؤول عن تنظيم عمل القطاع المصرفي.
- ترتبط الثغرة الأخرى بالعقوبات المنصوص عنها في القانون، بعد إحالة المخالفات إلى الهيئة المصرفيّة العليا. إذ ينصّ القانون على تحميل المصارف «عقوبات إداريّة»، دون تحديد طبيعة هذه العقوبات أو درجتها بحسب خطورة كل مخالفة.
- أمّا أبرز الثغرات، فهي ترك المجال أمام المصارف لمخالفة القانون، عبر فتح الباب لرفضها تزويد الجهات الرسميّة بالداتا المطلوبة، من خلال تعليل خطّي مكتوب. وهذا البند، بحدّ ذاته، يمثّل ثغرة ستسمح للمصارف بالامتناع عن كشف حساباتها، تمامًا كما تمتنع هيئة التحقيق الخاصّة عن تسليم الداتا المصرفيّة اليوم بشكل استنسابي.
لكلّ هذه الأسباب، سيكون على المشرّعين الاستعداد للمعركة الطاحنة، لتثبيت المبادئ العامّة المرتبطة بمشروع القانون، والتصويب على الثغرات التي من شأنها عرقلة تنفيذه لاحقًا. وهذا النوع من المعارك التشريعيّة، سيحتاج إلى تهيئة الرأي العام أوّلًا، لتعبئته من خلال شرح أهميّة هذه التعديلات المطروحة، وكيفيّة اتصالها بمسار التصحيح المالي الذي يخدم مصالح محدودي الدخل في البلاد.