رغم حساسيّة المسألة وأهميّتها، ما زلنا لا نعلم سوى القليل عن القانون الطارئ لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، الذي يُفترض أن تحيله الحكومة المقبلة كمرسوم مشروع قانون إلى المجلس النيابي.
حاكم مصرف لبنان
كان لبنان قد ترك هذه المهمّة لحاكم مصرف لبنان، ليعمل على إعادة الهيكلة وفق مبادئ وضعها بنفسه لإعادة رسملة المصارف (ضخ رساميل جديدة من المساهمين في كل مصرف)، وبحسب تفاهمات خاصّة عقدها مع جمعيّة المصارف. القاعدة التي عمل عليها الحاكم هنا هي «إعادة الهيكلة الطوعيّة»، والتي تعني تحديد الحاكم لمجموعة من معايير الملاءة والسيولة، مع ترك مهمّة الامتثال والدمج والاستحواذ لعمليّات السوق، وفق ما تراه المصارف مناسبًا.
اعتراض صندوق النقد
لكنّ صندوق النقد لم يقتنع بهذا المسار بأسره.
فعمليّة ضخمة من هذا النوع لا يمكن القيام بها بالاحتكام إلى «الثقة» بحاكم مصرف لبنان الحالي، الذي تحيط بعمله ألف علامة استفهام، ولا بأي حاكم مقبل بمعزل عن هويّته. والاحتكام إلى «السوق»، أي إلى قرارات المصارف التجاريّة العاملة حاليًّا فيه، مسألة لا تبشّر بالكثير من الخير، خصوصًا إذا كنّا نتحدّث عن التعامل مع تعثّر لنظام مالي بأكمله، بما يتطلّب تضحيات من المساهمين وشطب لرساميل وضخ لرساميل جديدة، وفي بعض الأحيان، تعديلات وازنة في هويّة أصحاب القرار داخل بعض المصارف الغارقة بالخسائر.
لكل هذه الأسباب، اشترط صندوق النقد القانون الطارئ لإعادة هيكلة القطاع المصرفي، ليحّدد آليّات إعادة الهيكلة وأدواتها، وصلاحيّات كل من الحكومة ومصرف لبنان في هذا المسار، والمعايير التي يُفترض أن تتمّ على أساسها هذه العمليّة.
من الحكومة إلى الحاكم
منذ ذلك وقت، تحاول الحكومة تمرير هذا القانون كيفما اتّفق، لمجرّد كونه شرطاً من شروط صندوق النقد، لا لكونه خطوة مطلوبة لضمان شفافيّة إعادة الهيكلة. لذلك، لم تحظَ مسودّة مشروع القانون بالكثير من الاهتمام. آخر ما سمعناه من الحكومة الحاليّة عن مسودّة مشروع القانون كان إحالة الملف إلى حاكميّة مصرف لبنان، لوضع الأسس والمبادئ العامّة التي يفترض أن تجري على أساسها إعادة الهيكلة. وتعني هذه الخطوة استكمال عمليّة إعادة الهيكلة بحسب الآليّات التي وضعها حاكم مصرف لبنان سابقًا، والتي تقتصر، كما ذكرنا، على مبدأ وضع متطلّبات إعادة الرسملة، وترك كل ما يتجاوز ذلك في عمليّة إعادة الهيكلة للمصارف نفسها.
كان مصرف لبنان قد بدأ هذا المسار مع بداية الأزمة، عندما وضع تاريخ شباط 2021 كمهلة أخيرة للامتثال لمتطلّبات إعادة الرسملة وزيادة أموال المساهمين الخاصّة. وبعد سنة وأربعة أشهر على انتهاء هذه المهلة، لم تتمكّن غالبيّة المصارف من الوصول إلى معدلات الملاءة التي اشترطها الحاكم في تعاميمه، ولم يأخذ مصرف لبنان أي إجراء بحق المصارف التي فشلت في الامتثال للتعاميم. وفي المقابل، لم تقم المصارف نفسها بأي عمليّات دمج أو استحواذ للوصول إلى هذه المعدلات، عملًا بقاعدة إعادة الهيكلة «الطوعيّة».
باختصار، فشل مسار إعادة الهيكلة كما أراده الحاكم، وعادت مسودّة قانون إعادة الهيكلة اليوم إلى حاكم مصرف لبنان نفسه. لم يبدِ رئيس الحكومة نجيب ميقاتي الكثير من الاهتمام بالملف بأسره في النقاشات مع لجنة المال والموازنة، معيدًا النقاش في كل مرّة إلى فجوة خسائر الـ73 مليار دولار، بمعزل عن كيفيّة إعادة القطاع بالتوازي مع معالجة الخسائر. وبذلك، بدا أن أولويّات رئيس الحكومة تنحصر في إعادة إحياء القطاع المصرفي بصيغته السابقة، لا التفكير بشكل القطاع المالي الذي سيخدم المقيمين في لبنان في المستقبل.
متطلبات القانون
في واقع الأمر، قانون إعادة الهيكلة أكبر وأهم من أن يُترك لحاكم مصرف لبنان، وأكبر من أن يستخف به رئيس الحكومة في مناقشاته. هذا القانون يُفترض أن:
- يتكامل أولًا مع رؤية الدولة الاقتصاديّة على المدى البعيد، بما يتجه نحو قطاع مالي وأنظمة ائتمان قادرة على خدمة القطاعات الاقتصاديّة التي تريد الدولة بنائها.
- يفرز الأصول والموجودات والودائع المتبقية في القطاع المصرفي، وفقًا لنوعها، ومن ثم تقسيمها على مؤسسات ماليّة متخصصة مختلفة الأدوار والمخاطر والوظائف.
- يعمل وفق تراتبيّة عادلة في توزيع الخسائر المتراكمة داخل القطاع.
وهكذا، يمكن لهذا القانون –إذا توفّرت الإرادة السياسيّة- أن يكون ركن أساسي من أركان مسار التصحيح المالي، إلى جانب الأمور المرتبطة بإعادة هيكلة الدين العام، وتوحيد سعر الصرف ونظام القطع، وشبكات الحماية الاجتماعيّة، وغيرها.