انشغل الرأي العام اللبناني خلال الأيام الماضية بتفاصيل التعميم 148 الصادر عن مصرف لبنان، وهو التعميم الذي ينظّم عمليّة سحب الودائع لأصغر شريحة من المودعين بالعملات الأجنبيّة والليرة اللبنانيّة، والتي تقلّ قيمتها الإجماليّة عن خمسة ملايين ليرة بالعملة المحليّة أو ثلاثة آلاف دولار أميركي بالعملات الأجنبيّة كافّة.
وبالرغم من كلّ الشروحات من قبل الخبراء الذين يدورون في فلك المصرف المركزي وجمعيّة المصارف، بقي التعميم غامضاً بالنسبة إلى آليّات عمله من خلال سؤال كبير لم تتمّ الإجابة عنه: يتحدّث التعميم عن دفع قيمة الودائع بالدولار بعد تحويلها إلى الليرة، وفق «سعر السوق»، على أن يحدّد كل مصرف يوميّاً سعر السوق هذا لديه. وهنا، لم يحدّد التعميم كيفيّة احتساب سعر السوق هذا، أو آليّات العرض والطلب التي ستتحكّم به، خصوصاً أنّ تحديد سعر صرف عند مستويات تقلّ عن تلك المعمول بها لدى الصرّافين، سيعني تلقائيّاً اقتطاع نسبة من قيمة الودائع توازي الفارق بين السعريْن.
الأحجية واضحة: مصدر عرض الدولار معروف، وهو أصحاب الودائع الصغيرة الذين سيبيعون دولاراتهم للمصرف مقابل كمّيات موازية من السيولة بالليرة. لكن ما مصدر الطلب من الجمهور الذي سيحدّد في المقابل سعر الصرف بالنسبة للمصرف؟ هل تملك المصارف ما يكفي من سيولة نقديّة بالدولار للدخول في الأسواق وبيعها في المقابل؟ بالتأكيد لا!
هل ستعمد المصارف إلى اعتماد سعر الصرف لدى الصرّافين لشراء الدولار من صغار المودعين ودفع الودائع بالليرة، دون أن تعمد إلى بيع دولارات بقيمة موازية وبنفس سعر الصرف المرتفع؟ بالتأكيد لا!
فذلك سيعني ببساطة تكبّد المصارف خسارة ضخمة، نتيجة الدفع للمودع قيمة وديعته المدولرة بالليرة وبسعر صرف يبلغ ضعفَيْ سعر الصرف الذي تعتمده في حساباتها مع المصرف المركزي. وميزانيات المصارف لن تتحمّل هذا النوع من الخسارة. هذه المعادلة تحديداً تحتّم وجود بيع مقابل الشراء بهذا السعر الجديد.
يعطيك رياض سلامة hint صغيرة في 149 تعميم آخر رقمه: ثمّة منصّة تداول ستجمع المصارف مع المصرف المركزي والصرّافين، لكنّ سلامة يقرّر أن يترك لمخيّلتنا معرفة دور هذه المنصّة، وعلاقتها بأحجية «سعر صرف السوق» في التعميم السابق والصرّافين.
تأتي hint أخرى في وقت لاحق، من جمعيّة المصارف هذه المرّة، والتي تؤكّد في بيانها تحديد المصارف لسعر الصرف هذا بشكل يومي، بانتظار إطلاق مصرف لبنان لمنصّته التي نصّ عليها التعميم 149. يعيدنا كلّ ذلك إلى الأحجية نفسها، ولو بات واضحاً أن للمنصّة هذه دوراً أساسياً في العمليّة.
ثمّة إجابة واحدة للأحجية، تؤكّدها كل التحضيرات التي تجري اليوم في المصارف لتطبيق التعميم: ستشتري المصارف الدولارات من المودعين، وفي المقابل ستعمد من خلال المنصّة إلى بيع نفس قيمة الدولارات وبنفس الصيغة: ستبيع الدولار المحلّي، أو الدولار اللبناني، وليس الدولار النقدي الفعلي. وهنا، سيتكفّل العرض والطلب بتحديد سعر الدولار المحلي.
ما هو الدولار المحلي؟ الدولار المحلّي ليس سوى الدولار المسجّل في الحسابات المصرفيّة، هو تماماً السيولة التي يملكها اليوم المودعون في المصارف.
من يملك المصلحة بشراء الدولار المحلّي؟ عدّة أطراف: المقترضون وأصحاب الالتزامات بالدولار الذين ترفض المصارف بيعهم الدولار بسعر الصرف الرسمي، أو زبائن التجّار الذين يقبلون الشيكات المدولرة لنفس الأسباب.
كم يساوي الدولار المحلّي بالليرة؟ في الواقع، يقوم الصيارفة اليوم ببيع الشيكات المدولرة بأسعار تتراوح بين 2100 و2200 ليرة مقابل الدولار الواحد. عمليّاً، سوق هذه العمليّات موجود أساساً، ما سيجري هو ضمّها إلى نطاق سيطرة مصرف لبنان والمصارف، والاستفادة منها للتخلّص من الودائع.
ماذا يعني ذلك بالنسبة لصغار المودعين؟ ببساطة، الاستعداد لسعر صرف يقلّ كثيراً عن سعر الصرف الفعلي للدولار النقدي في الأسواق، وهو ما يعني تضمّن العمليّة لـ«هيركات» مقنّع.
ماذا يعني ذلك بالنسبة للمقترضين؟ ما زالت المصارف تقبل الدفعات بالليرة لبعض أنواع القروض الصغيرة المدولرة. وإذا نجح نموذج المنصّة في المستقبل، من الممكن إحالة هؤلاء لشراء الدولار من خلال هذه المنصّة.
هل ستكون هذه الوظيفة الوحيدة للمنصّة؟ كلا، من المفترض أن يتم إستخدامها لغايات أخرى، كشراء المصرف المركزي للدولار من السوق الموازية، وتنظيم عمليّة شراء الدولارات الطازجة في المصارف.
في الخلاصة، ليس تشكيل هذا السوق الرديف سوى المقدّمة الطبيعيّة لتحرير سعر الصرف، تمهيداً لدخول صندوق النقد على خط معالجة الأزمة. أمّا تقاعس السلطة عن تنظيم عمليّة إعادة هيكلة المصارف، فلم يكن سوى رمي للكرة في ملعب سلامة وأحجياته وهندساته النقديّة.