سهولة العنصرية في الغرب
في زمن مختلف، لم يكن لمقالٍ كهذا، «فهم الشرق الأوسط من خلال مملكة الحيوانات»، لكاتبه المعروف بتسطيحاته الاستشراقية، توماس فريدمان، أن يُنشَر. مقالٌ رديء، ليس فيه فكرة واحدة تستدعي الردّ عليها أو التعاطي معها. مقالٌ مرَّ على محرّري صحيفة «نيويورك تايمز» الذين ضحّوا، في الآونة الأخيرة، بأي مصدقايّةٍ كانت الصحيفة قد راكمتها في الماضي، من أجل الدفاع عن حقّ إسرائيل بإبادة شعبٍ آخر. مقالٌ يبدو ألّا دور له إلّا إهانة شعوبٍ بأكملها والمشاركة في تبرير الإبادة الحالية.
في زمنٍ مختلف، ربّما لم يكن لهكذا مقال أن يُنشَر. لكنّه نُشِر، ما أثار موجةً من النقد والاستهجان. رغم الاعتراض، نُشِر. قبله ببضعة أيّام، نُشر مقالٌ آخر يحاكي العنصرية الصاعدة، في «وول ستريت جورنال»، ويعتبر أنّ مدينة ديربورن باتت عاصمةَ الجهاد. سبق ذلك أشهرٌ من التجييش العنصري والاستشراقي من قبل أهم وسائل الإعلام الغربية، تجييش يجعلها شريكة بالإبادة الحالية لسكّان غزة. العنصرية باتت سهلة في الإعلام الغربي اليوم، عادية، متطبّعة، مقبولة، مسموحة، مُحبَّذة.
المقال
مقال فريدمان، كمعظم كتاباته، لا يستدعي الكثير من التحليل. فكتاباته هي مجرّد تمارين رديئة على الخيال الاستشراقي. والخيال هذه المرّة أخذ فريدمان نحو عالم الحيوان.
نظر فريدمان إلى المنطقة، فرأى ما يشبه حيوانات تتقاتل. الولايات المتّحدة باتت أشبه بـ«أسد عجوز»، ما زال «ملك غابة الشرق الأوسط»، لكنّه منهك و«لم تعد الحيوانات المفترسة الأخرى تخشى اختباره». إيران نوع من «الدبابير الطفيلية»، وبيوضها (أي الحوثيون وحزب الله وحماس وكتائب حزب الله) تأكل الأجسام الحيّة، حتّى تنفجر من داخلها. أما حماس، فهي «عنكبوت باب المصيدة» التي تمسك بفريستها لكي تعيدها إلى الجحر لالتهامها. «وعناكب باب المصيدة ماهرة في تمويه أبواب أعشاشها الموجودة تحت الأرض، لذا يصعب رؤيتها حتى يتم فتحها». أما نتنياهو، فهو أشبه بـ«ليمور السيفاكا»، التي تتحرّك جانبياً وتتجنّب التراجع أو التقدّم.
عاد الخيال الاستشراقي إلى مربّعه الأوّل، إلى العنصرية البدائية، هذه العنصرية التي تُشبّه الآخر بالحشرات، كمقدّمة لإبادتها، هذه العنصرية التي انطلقت من التوصيف الكولونيالي للشعوب المُستعمَرة، حتّى صارت خطابَ النازيّين الأساسي في وصفهم لضحاياهم اليهود. عاد هذا الخطاب البدائي إلى الواجهة، وبات مقبولاً في الخطاب العام. وهكذا خطاب، لا دور له إلّا تبرير العنف. فيستنتج فريدمان في مقاله أنّ «ليس لدينا استراتيجية مضادّة تقتل الدبور بأمان وكفاءة دون إشعال النار في الغابة بأكملها»، مأزق المستعمِر الذي لا خيار له إلّا قتل الشعوب من أجل قتل «الحشرات» التي بينها.
الغرب الجديد ما بعد الإبادة
هذه العنصرية المتعجرفة والبدائية ليست فقط نتيجة خيال استشراقي قديم، تفلّت من رقابة محرّري الصحف. هي عنصرية قديمة-جديدة، عادت إلى بدائية الخطاب العنصرية لتأقلمه مع واقع جديد، واقع إبادة لم يعد من الممكن تجاهلها. فبعد أشهر من محاولات تجاهل ومن ثم تبرير للإبادة من قبل إعلام غربي، لم يعد هناك الكثير ممّا يمكن فعله مِن قبل هذا الإعلام إلّا الالتحاق الكامل بخطاب سلطات الإبادة، حتّى باستعاراتها الحيوانية. لم يعد هناك مسافة ممكنة تجاه حدث الإبادة لهذا الإعلام.
الإبادة تحصل في فلسطين. لكنّ مفاعيلها تطال العالم بأكمله. وبين أوّل مَن سقط جرّاءها، «الغرب»، أو صورة الغرب عن نفسه، هذه الصورة الحضارية التي شكّلت التبرير لسطوته على العالم. فلتبرير الإبادة مفعول تآكلي، يقضي على كل المعايير والأخلاق، الحقيقية أو الوهمية، ليَفرض على من برّر أو تجاهل الإبادة، واجب المشاركة فيها. مقال توماس فريدمان الأخير ليس سقطة عنصرية أو هلوسة كاتب لم يعد لديه ما يقوله. هي إعلان مرحلة الانضمام المباشر للإعلام الغربي بعملية الإبادة.