لا تنحصر أصعب لحظات الغربة حالياً في غيابي أوعدم مشاركتي في ما يجري في لبنان، فذلك تحصيل حاصل، إنّما إحساسي القاسي بأنّ علّي أن أكمل حياتي في هذه الغربة وكأنّ شيئاً لم يكن. فالزمن توقّف عندي، والعودة الى الواقع أمر صعب.
أسرق اللحظات ما بين التلفون واللابتوب لأتابع ما يجري. أبحث عن فيديوهات وصور لساحات وشوارع بيروت، والنبطية، وطرابلس، وصور، وعكار، وبعلبك... علّي أعوّض عن غيابي وأكفّر عن ذنبي بأنني لست هناك. وبين تلك اللحظات البعيدة عن واقعي، أعود الى الحياة هنا، أخرج الى شوارع لا ثورة فيها، أنظر الى أعين لا حماسة لمندسّين فيها، وأكلّم أشخاصاً لا يفترشون الطرقات، بلغةٍ ما زلتُ لا أتكلّمها أو أفهمها.
أوجعتني بيروت مراراً وتكراراً.
غادرتُها منذ أكثر من سنة للمرّة الثالثة، وعاهدت نفسي ألّا أعطيها قلبي بعد اليوم. في كلّ مرّة تلفظني وأعود إليها، تزداد قساوتها وغربتي فيها. حسابي معها طويل، منذ الحرب الأهلية، مروراً بتدمير بيتي في الضاحية خلال حرب تموز 2006 وانكسار أهلي وضياع ذكرى ماضينا رغم إنقاذ بعض الصور من بين الأنقاض، وتفجيرٍ أوقف الزمن عندي وأرجعني سنين الى الوراء حين طال أسفل ذلك المنزل الذي أعيد إعماره بعد ستّ سنوات، ولكنّه لم يعد «أجمل ممّا كان».
حين قرّرتُ أن أعود للعيش في بيروت مجدّداً بعد ذلك بخمس سنوات، كانت المدينة قد تغيّرت كثيراً، فأصبحتْ تضيق بنا أكثر فأكثر: غلاء، قلّة فرص عمل، ناس متوتّرون، تعصُّب وعنصرية. لم أجد مكاناً لي ولعائلتي في مدينةٍ كهذه، وهربتُ للمرة الثالثة إلى بلاد الله الواسعة. كرهتُ بيروت، قاطعتُها، واختبأتُ في الغربة علّني أجد بعضاً من السلام.
هذه المرة، لم تكن بيروت هي التي اجتاحت غربتي رغماً عن أنفي. غمرتني طرابلس والنبطية وصور بأصوات الـ«هيلا هيلا هو» ونداءات المدن لبعضها بعضاً، لتعيد القلب إلى لبنان. ما زلتُ لا أحب هذه الوطنية الزائدة حول لبنان، وأفضّل مدنه وقراه. لكنّني سأشتري زجاجة ويسكي الليلة، وأتخيّلها تلك الزجاجة التي وجدها أبي تحت ركام البيت بعد حرب تموز، فخبّأها ولم يتسنَّ لي أن أشرب منها لأنّني لا أحبّ الويسكي. سأشرب بكل سعادة كأس مدن لبنان لأصفّي حساباتي القديمة. كأس سنوات الحرب التي ضيّعت أحلام أهلي. كأس التسعينات التي شوّهت مدينتي بالسياسات النيوليبرالية. كأس حزب فديتُه يوماً ببيتي، فهجّر غيري في سوريا. أشرب كأس بناتي اللواتي أحملهنّ معي في غربتي وتشتّتي. كأس وطن أجبرني على الهروب مراراً وتكراراً، وحرمني أن أكون هناك لأشارك لحظاتٍ يقول لي من يعيشها الآن أنّكِ لن تفهميها عن بُعد. كأس ساحات لبنان المقطوعة وقطّاع طرقه، لأنني ما زلت هناك. وكما قالت ابنتي ذات الستّ سنوات عندما أجبرتُها على الذهاب معي للاعتصام الاحد الماضي: المظاهرة ببيروت يا ماما أحلى.