كان الجميع يعلم أنّ صندوق النقد الدولي سيضيف الكثير من الشروط المؤلمة خلال مرحلة التفاوض مع الحكومة، لكنّ خطّة الإصلاح الحكومي- ورغم جميع علّاتها- كانت تمثّل الرهان الأخير لينطلق لبنان في التفاوض من خارطة طريق معيّنة، بدل أن يفرض عليه الصندوق كلّ عناصر المعالجة.
لكنّ الرهان على الخطّة الحكوميّة سقط بشكل سريع خلال الأيام القليلة الماضية، بسبب أربعة عوامل تتالت لتنسف تدريجيّاً أربع ركائز أساسيّة:
1- خطاب باسيل
في خطابه الأخير، غازل باسيل الخطّة في البداية مُمتدِحاً جرأتها في تحديد الخسارة والحديث عن إعادة هيكلة الدين واستعادة الأموال المنهوبة. لكن في المضمون، أطاح باسيل بأهمّ ركن من أركان الخطّة، من خلال رفض تحميل المصارف جزءاً من الخسارة عبر شطب رساميلها وإعادة هيكلة القطاع بشكل قسريّ.
فتحدّث باسيل عن تحميل المصارف بعض الخسارة من خلال إعادة هيكلة الدين واسترداد بعض أرباحها، وهذه أساساً مسألة حتميّة ما دام لبنان سيفاوض على ديونه السياديّة. لكنّه، في الوقت نفسه، رفض فرض إعادة رسملة القطاع المصرفي، واعترض على تخسير المصارف كلّ شيء، لا بل رفض أيضاً تسكير الخسائر دفعةً واحدة.
بالتأكيد، يرتبط موقف باسيل بحساباته الطائفيّة التي تتعلّق بالحديث عن شطب رساميل المصارف، لأنّ ذلك يعني انتقال جزء من ملكيّتها إلى أطراف طائفيّة أخرى. لكنّ موقفه هذا نسف أهمّ أركان خطّة الحكومة، أي تلك التي تتعلّق بطريقة توزيع الخسائر.
2- مناورة سلامة
انتظر رياض سلامة الوقت الملائم ليناور ويطيح بما يزعجه في خطّة الحكومة. تغيّب عن أوّل اجتماعات الوفد الذي يمثّل لبنان مع صندوق النقد، مُبدياً بذلك تحفّظه على بعض بنود الخطّة. وأرسل إلى هذه الاجتماعات وفداً من مصرف لبنان، لينتقد خطّة الحكومة داخل الاجتماعات نفسها. وفي النتيجة، طلب وفد الصندوق من الحكومة التفاهم مع مصرف لبنان قبل متابعة التفاوض. فالصندوق لن يتفاهم مع الحكومة على أيّ إصلاحات ما دامت غير منسجمة مع مصرفها المركزي الذي يمثّل الأداة التي تطبّق السياسة النقديّة في البلاد.
عمليّاً، بدأت الحكومة بتلبية طلب وفد الصندوق، من خلال مداولات وزارة الماليّة مع الحاكم لمعالجة تحفّظاته، بالتوازي مع المفاوضات مع الصندوق. وتطال تحفّظات سلامة بشكل رئيسي طريقة احتساب الحكومة للخسائر في ميزانيّات مصرف لبنان، وبعض بنود المعالجة التي تمسّ برأسماله، وهو ما يشكّل ركناً أساسيّاً آخر من أركان خطّة الإصلاح الحكومي.
3- نصر الله والتهريب
تمثّل مسألة التهريب وتفلّت الحدود هاجساً أساسياً لوفد الصندوق. فاستفادة لبنان من قروض الصندوق، كما تطلب خطّة الحكومة، في ظلّ استمراره في إنفاق الدولارات على دعم السلع المستوردة، ودون ضبط الحدود، ستعني ببساطة هدر دولارات القروض في عمليّات التهريب، كما يجري الآن مع دولارات احتياطيّ المصرف المركزي.
خطاب نصر الله، صاحب النفوذ الأكبر على الحدود اللبنانية السوريّة، لم يحمل الكثير من التفهّم لهذه النقطة. لا بل قلّل بشكل غير مباشر من أهميّة حجمها وأثرها، ثمّ ربطها بمسألة تطبيع العلاقات مع النظام السوري، وهي مسألة ستثير بدورها حساسيّات أخرى لدى الدول التي تملك النفوذ داخل صندوق النقد كالولايات المتحدة.
عمليّاً، سيضرب هذا الموقف كلّ مصداقيّة الخطّة التي تحاول إثبات قدرة الحكومة وجديّتها في مكافحة جميع مكامن الهدر والاستنزاف، قبل الوصول إلى مرحلة الدعم من الصندوق.
4- وهْمُ الـ10 مليار
راهنت خطّة الحكومة على الحصول على دعم خارجي بقيمة 10 مليار، بالإضافة إلى أموال مؤتمر سيدر التي تختلف وجهة وآليّة استعمالها عن المبلغ المطلوب في الخطّة. ومع بدء المفاوضات، تبيّن تدريجيّاً أن المبلغ مبالغ فيه جدّاً، سواء من جهة القيمة التي يمكن الاستحصال عليها من الصندوق في هذه الظروف، أو من جهة الأطراف الدوليّة الأخرى المستنزفة بتبعات أزمة كورونا.
نسف سلامة الجزء المتعلّق بخسائر المصرف المركزي.
نسف نصر الله الجزء المتعلّق بمكافحة استنزاف العملة الصعبة.
نسف الواقع وهْمَ الحصول على 10 مليارات.
هذا ما يحصل عندما ترتجل الحكومة خطّة سريعة تستهدف الاقتراض، قبل أن تستهدف الإصلاح.