تعليق أبويّة وذكورية
سامر فرنجية

«ضجّة» ريتا حايك وفراغ التغيير

15 أيار 2024

ضجّة صغيرة في بلد الهلع الكبير

أنا لا أؤمن بمؤسسة الزواج… موقف بسيط في الظاهر، صرّحت به الممثّلة ريتا حايك في مقابلة لها.  قد لا يبدو هذا الرأي مستفزًا أو سبباً لأي جدال إلّا في مجتمع سريع الاستياء كمجتمعنا. فأثار التصريح ما يسمّيه الإعلام «ضجّة»، أي حالة خفيفة من الامتعاض لا تتخطّى شبكات التواصل الاجتماعي. لكنّ الضجة كانت كافية لكي تضطر الممثلة أنّ تفسّر موقفها مجدّدًا، وإن من دون التراجع عنه.

ضجّة صغيرة، إذن، في مسلسل «الفضائح» المتنقّلة. فبعد الضجة، كان هناك استنفار إعلاميّ ضدّ الكوميدية شادن فقيه لما اعتبرته دار الفتوى إساءةً للدين. لم تكن ضجةً، بل «فضيحة»، لديها أبطال كالشيخ حسن مرعب ونيابات عامة وتظاهرات ليلية. وقبل الضجة بأشهر، قامت حملات أخرى من الاستياء، طالت الكوميدي نور حجار ومن ثمّ مجتمع الميم-عين بأكمله. وبين الضجة والفضائح والحملات، قضايا أصغر، تعبّر عن القلق المتزايد من الجنس والجسد والتحوّلات الجندرية والقِيَم المتحوّلة.

المجتمع اللبناني، إذن، بحالة تأهّب دفاعًا عن نظامه الأخلاقي والقيَمي. هو قلق على قيمه، يعيشها وكأنّها محاصرةً من أفكار غريبة ومخروقةً من بُؤَر «شذوذ» تريد إضعافها. الجميع مطالب بالتكاتف والتضامن دفاعًا عن الدين والعائلة والأخلاق. ولكل من يخالفها، عقابه: ضجّة، فضيحة، حملة، كلّ بحسب حجم التهديد الذي يشكّله.  


مؤسّسة الزواج الفاشلة

ربّما كان سبب «الضجّة» أنّ الموقف لم يأتِ من بؤر الاعتراض المعتادة، بؤر «الشذوذ» التي بات من السهل شيطنتها وقمعها. كما لم يأتِ من «متطرّفين» يريدون هدم قيَم المجتمع، بل من امرأة متزوّجة، أمّ لولد، ممثّلة معروفة، أي من صُلب المجتمع. ومن صُلبه، من صُلب مؤسّسته الأساسية، أي العائلة، أبدت حايك رأيًا بسيطًا، وهو أنّها لا تؤمن بمؤسسة الزواج، مؤسسة التجأت إليها من أجل الإنجاب ليس إلّا. لا يبدو الموقف ثوريًا، ودلالته هي أنّ بعض الأفكار «غير النمطيّة» باتت تدخل في صلب المجتمع، بعدما كانت محصورة بدوائر «الشذوذ». 

ربّما كان هذا ما أقلق القيّمين على الأخلاق، فأثاروا ضجّتهم.  

ليس هذا التحوّل في الأفكار إلّا انعكاسًا لتحوّلات مادية في بنى المجتمع، تحوّلات طالت مؤسسة الزواج نفسها. فرغم التمسّك القيَميّ السائد بالزواج والإنجاب والعائلة، باتت هذه المؤسسات تتغيّر وتتحوّل، لكي يبدو الكلام السائد عنها والدفاع المستميت عن شكلها محاولة لتثبيت نموذج قديم على ممارسات قيد الإنشاء. المجتمع يتحوّل، لكنّ القِيَم والقوانين والأخلاق ما زالت تعاند هذا التحوّل، لتُنتِج حالةً من الانفصام بين ما نعيشه وما نقوله عمّا نعيشه. 

هذا العناد ليس مجرّد محاولة لتثبيت ما هو متحوّل. هو في الأساس دفاع عن مصالح ذكورية، تجد في صورة هذا الزواج وهذه العائلة شكل سيطرتها على المجتمع. فبالنسبة للعديد من الأفراد، لا تشكّل العائلة والزواج هذه الصورة الوردية التي تطمح لها الجموع، بل سجناً من الصعب الهروب منه ومصنعاً للانسياق الاجتماعي ومكاناً لعنف غير مرئي. لا يحتاج هذا التقييم إلى الكثير من الإحصائيات لبرهنته، ولعلّ مجرّد زيارة إلى المحاكم الدينية، أو قراءة لتقارير الجمعيات التي تعنى بالعنف الأسري، أو نظرة إلى عينَيْ من لا يزال في السجن، كفيلة ببرهنته.  


التغيير المحافظ

ربّما لم تكن حايك تريد إثارة «ضجّة»، لكنّها مسّت بأحد منطلقات النظام القيَميّ، أي الزواج، ومن ورائه العائلة (وإن كانت لا تمانع العائلة). فرغم كل الانقسامات السياسية في لبنان، هناك مشترك أخلاقي وثقافي حول العائلة والزواج والإنجاب، قد يشكّل المرتكز الأساسي لهذا المجتمع. والمسّ بها ما زال يثير الفضائح. فالتمسّك بالصورة يتضاعف مع اهتزاز البنية. 

الضجّة ليست صنيعة المقابلة وحسب، بل هي إشارة لضعف النقد الاجتماعي والثقافي في لبنان، حيث أكثرية حركات الاعتراض، بالماضي القريب أو البعيد، بقيت محصورة بالحدّ السياسي، إمّا لأنّ تلك الحركات تتشارك محافظةً اجتماعيةً مع محيطها، أو لأنّها تحاول تفادي مواجهة فئات تحتاج إليهم وإلى أصواتهم في المعارك «السياسية». وربّما كان عنوان ضعف هذا النقد الاجتماعي هو «نقد الطائفية»، الذي بات يشكّل سقف نقدٍ كهذا ومدخلاً وحيداً إليه. وربّما شكّل مطلب «الزواج المدني» دلالةً لنقدٍ كهذا، لا يرى في تلك البنى مشكلةً إلّا ارتباطها بالقَيْد الديني. فتتحوّل العلمنة أو التحرّر من القيْد الطائفي سقفاً لأي تحرّك سياسي.

لعلّ أزمة التغيير في لبنان هي أنّ معظم برامجه بقيت بحت «سياسية»، تنظر إلى المسائل الثقافية والاجتماعية كمسائل ثانوية، تقع تحت خانة «الحريّات». فالدفاع عن الاختلاف، أكان في المسائل الجنسية أو الأخلاقية أو القيَميّة، كان دائمًا دفاعًا عن حق الاختلاف وليس دفاعًا عن محتوى هذا الاختلاف من قبل أرباب التغيير. وهنا المشكلة الأساسية لقوى سياسية قرّرت الامتناع عن نقد المجتمع، وحصر دورها بالحَكَم الليبرالي الحريص على حق الاختلاف ليس إلا.

في ظلّ هذه المحافظة الاجتماعية عند القوى التغييرية، تبقى «ضجّة» ريتا حايك أكثر جرأةً من معظم برامج التغيير، الثوريّ منها ضمناً.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
ميساء صابرين: أوّل حاكمة للبنك المركزي في سوريا
جيش الاحتلال يتوغّل في مدينة القنيطرة السوريّة
7 فلسطينيين تجمّدوا حتّى الموت في غزّة
تعليق

استمرار حرب إبادة ونهاية نظام إبادة

زياد ماجد
تسريبات إسرائيلية جديدة حول اغتيال هنية
الاحتلال يستهدف مستشفيَين في مدينة غزّة