بعد خفوت الشارع مع الكورونا والإجراءات الأمنيّة القمعيّة في ساحات الثورة ومع الثوّار، استعدّ العديد من المجموعات الثوريّة في المناطق والساحات للعودة إلى الشارع واستكمال ما بدأ في 17 تشرين؛ بخاصّةٍ مع ازدياد الضغط الاقتصاديّ الاجتماعيّ، وفي ظلّ حكومة مستشارين تنفّذ الأجندات السياسيّة لقوى المنظومة الحاكمة وتحمّل الناس ثقل الانهيار الاقتصاديّ والغلاء الفاحش الذي يخضع لمزاج التجّار وكبار المحتكرين، خلال غيابٍ تامٍّ للسلطة بحماية العائلات والمستهلكين.
لكنّ الواقع الحاليّ يختلف عن 17 تشرين. فلا يخفى على أحدٍ أنّ لا توجّه واضحاً للثورة يجمع عليه الناس.
ففي ظلّ الوضع الاقتصاديّ الحاليّ وسيطرة المنظومة الحاكمة على السلطتين التشريعيّة والتنفيذيّة، ومع الانهيار التامّ الحاصل في البلاد والتهديد المباشر للأمن الغذائيّ والصحيّ والأمنيّ، بات هامش التحرّكات لدى الناس محدودًا ودقيقًا. فالمسؤوليّات كبيرةٌ والتهديدات أكبر.
كما أصبحت جليّةً محاولة بعض الأحزاب والمجموعات (التي شاركت في 17 تشرين) قطف ثمار الثورة وتحسين موقعها السياسيّ في السلطة، والمتمثّلة بمطلب الانتخابات النيابيّة المبكرة دون سلّة الإصلاحات وفق قانونٍ انتخابيٍّ عادلٍ وهيئةٍ مستقلّةٍ لإدارة الانتخابات. في حين يرى الكثير من المجموعات أنّ مطلب الانتخابات النيابيّة المبكرة سيؤدّي إلى إعادة إنتاج نفس المنظومة الحاكمة بخروقاتٍ قليلةٍ في بعض الدوائر، وبالتالي إعطاء الشرعيّة لمنظومةٍ فقدت شرعيّتها في الشارع.
من ناحيةٍ أخرى، فإنّ المنظومة الحاكمة بأركانها أخذت الوقت الكافي للتعامل مع الاحتجاجات بطرقٍ أكثر ذكاءً وخبثًا. فشهدنا نشاطًا مخابراتيًّا وأمنيًّا غير مسبوقٍ من الأجهزة الأمنيّة الرسميّة والحزبيّة. تمثّل ذلك عبر إدخال موضوع القرار 1559 ونزع سلاح حزب الله، وهو موضوعٌ خلافيٌّ أساس، يعي جميع اللّبنانيّين/ات استحالة حلّه في الشارع.
حصل هذا كلّه في سبيل إعادة الانقسام العموديّ التقليديّ بين 8 و14 آذار.
ورغم عدم تبنّي أيّ مجموعةٍ من المجموعات التي شاركت في الاحتجاجات السابقة لهذا المطلب، فإنّ الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعيّ لعبت دورًا كبيرًا في إظهار هذا الخلاف بشكلٍ كبيرٍ جدًّا، لا يعكس حقيقة مطالب الناس أو المجموعات في المناطق والساحات التي تحمّست للعودة إلى التحرّكات. لا يخلو هذا المطلب من دفعٍ سياسيٍّ واضحٍ من قبل بعض الشخصيّات الطائفيّة التي تطمح إلى لعب دورٍ سياسيٍّ في المستقبل القريب، بعد تفكّكٍ كبيرٍ شهدته بعض التيّارات السياسيّة مثل تيّار المستقبل والتّيّار الوطنيّ الحرّ.
أمام هذا المشهد المركّب والمعقّد، كان خيار عدم المشاركة في تحرّك 6-6 هو الأسهل والأقلّ مخاطرةً؛ إلّا أنّ الرّكيزة الأساس والبوصلة اللتين نعتمد عليهما في «لحقّي» لتقييم وتقويم مسارنا، هما الانحياز التامّ إلى مصالح الناس. وبناءً على استطلاع رأي الناس في المناطق والقطاعات، ونقاشاتٍ دارت على مدى عدّة إيّامٍ، كان واضحًا أنّ الجوّ العامّ محمّسٌ للعودة إلى الشارع، تحت مطالب وحقوق اقتصاديّة اجتماعيّة تعبّر عن هواجس الناس.
وعليه، كانت البوصلة واضحةً أن نكون بجانب مطالب الناس وأن نستخدم كلّ قدراتنا في خدمة رفع المطالب الاقتصاديّة والاجتماعيّة تحت شعار «عمل، صحّة، علم، غذاء، سكن للجميع»، بعيدًا عن أيّ حساباتٍ سياسيّةٍ أو غير سياسيّة.
إنّ تحرّك 6-6، رغم التهويل والعمل المخابراتيّ والأمنيّ والتجمّعات المنظّمة ومحاولات السيطرة على الإعلام والظهور الإعلاميّ، أكّد أنّ صوت الناس أعلى وأنّ محاولات المنظومة الحاكمة في إعادة الانقسام العموديّ إلى الشارع ستبقى في إطار التهويل والذبذبة الإلكترونيّة ولا يعكس حقيقة مواقف الناس. فالغالبيّة من المتظاهرين/ات كانوا من الناس الذين تداعوا في 17 تشرين حتّى يومنا هذا، دفاعًا عن حقوقهم/هنّ وإيمانًا منهم/هنّ ببناء دولة العدالة الاجتماعيّة والاقتصاديّة.
لا أولويّة على مصالح الناس المباشرة التي على السلطة أن تؤمّنها بأيّ ثمنٍ من عمل، صحّة، علم، غذاء وسكن. وإذا كانت المنظومة الحاكمة وحكومتها الفاشلة غير قادرتَيْن على تحقيق مطالب الناس وحقوقهم/هنّ الأساس، فالحلّ الوحيد الممكن هو عبر حكومةٍ انتقاليّةٍ مستقلّةٍ عن قوى المنظومة وأحزابها، تملك صلاحيّاتٍ استثنائيّةً وتعمل من أجل تحقيق العدالة الاجتماعيّة والكرامة الإنسانيّة، كما تحمي الناس من تبعات الانهيار الاقتصاديّ الذي قادتنا إليه سياسات المنظومة الحاكمة وحكوماتها المتعاقبة.
إنّ مسار التغيير طويل، و17 تشرين وما تلاها من تحرّكات، هي محطّاتٌ من هذا المسار.
اليوم وقت التنظيم والانتظام على صعيد القطاعات والنقابات والمناطق، إلى جانب الضغط الشعبيّ في الشارع.
ستزداد محاولات السلطة لإعادة الانقسام بين اللبنانيّين/ات، عبر طرح مواضيع خلافيّةٍ وعبر مطابخها المخابراتيّة والأمنيّة. لذا، نحن في خضمّ مرحلةٍ سياسيّةٍ مختلفة، نواجه منظومة حكمٍ مختلفةً بوسائل أكثر خبثًا من أيّ وقتٍ مضى. لكنّ القوّة للناس دائمًا، وسيبقى صوت الناس أعلى!