لم نتعرف إلى حزب الله كحزب. كنَّا أصغر من أن نفهم ماذا يعني حزب، وكيف يكون شكله.
تعرّفنا إليه كإصبعِ بدأ «ينكزنا» أينما كنَّا. وهذا قبل أن يُرفع بوجهنا ويخرج من الشاشات بزمن طويل.
بداية، اقتحم ملاعب مدارسنا، وتحديدًا خزانة الإعلانات المعلّقة على أحد جدران الملعب. شبان لا نذكر أننا كنَّا قد رأيناهم مسبقًا، «سقطوا» في المدارس وبين طلابها، فقط ليعلّقوا إعلاناتهم في الخزانة وشعاراتهم وتبريكاتهم ومعايداتهم للأنبياء والأئمّة، ثم يوزّعون بونبون في هذه المناسبات. لاحقًا بدأوا يراقبون الطلاب وحركاتهم، ويتحدّثون مع المدراء بشؤون لم تكن شؤونهم. لم يكونوا أصلاً طلابًا كما كنّا.
ثمّ ظهروا في ليالينا، كفرق موسيقية تمرّ في شهر رمضان لتوقظ النائمين. بالأحرى، كانوا يجبرون الناس على الاستيقاظ. فالموتى سيستيقظون على ذلك الصوت وتلك الأناشيد في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل: وقت السحور الإلزامي.
وتعرّفنا إليهم من خلال مناسبات لم نكن ندري أنّها مناسبات قبل أن يقرّروا ذلك. أقفلوا طرقات الأحياء الصغيرة ومنعوا سكانها من صف سياراتهم قرب أبنيتهم. وافترشوا شوارع الأحياء الصغيرة في ذكرى عاشوراء. ضرب الرجال ظهورهم بالجنازير، والشبان رؤوسهم بالموسى، والنساء صدورهن بكفوفهن. وعند الاستراحة، لم يشعروا بحرج الدَّق على أبواب منازلنا لاستخدام الحمّام مع أبنائهن الصغار.
بعضنا لم يفتح لهنّ.
تعرّفنا إليهم أيضًا كرجال أمن يفتّشوننا عند دخولنا أحياء مجاورة، أو عندما نزور أحد الأصدقاء الذي يسكن في المبنى نفسه لأحد رجال «الحزب». وقبل أن يفتّشونا، كنَّا قد سمعنا من الأصدقاء كيف يتمّ تفتيشهم هم يوميًّا كسكان ذاك المبنى.
وبدأنا نتعرّف إليهم كجثث تحت مبانينا وتحت أنظارنا، بعدما كانوا جيراننا، هم وأعداءهم حينها، حلفاءهم اللدودين اليوم. ساعدهم بعض أهالينا في نقلهم للمستشفيات. وبعضهم لم يفعل ذلك، واختبأ كي لا يرى أحد أنه رأى ما لم يكن يجب أن يراه.
عرفناهم من خلال منظر آبائنا يبكون خيبةً من واقع جديد وخوفًا علينا. ونحن زعلنا لأسباب أخرى. فهذه جثث شبّان الحي، مَن يفترض أن «يزمِّروا» عند وصولهم أدنى شرفاتنا، أو يحملوا عنَّا كيسًا ثقيلًا، وأن نلتقي بهم في موعد عند «باتيسيري فيكتوريا».
لم يحصل.
بل تعرّفنا إلى اللون الأسود واتّشحت حياتنا به دون أن نرتديه. اتّشحت جدران أحيائنا وأعمدتها، ثم نبتت على واجهات المباني المطلة على نوافذنا صور عملاقة لرجال لا فرح على سمات وجوههم ولا رغبة لنا بالنظر إليهم. تمرَّدنا بألواننا وطريقة لباسنا ومشينا يوميًّا على الأقل أمتارًا قليلة بين نظراتهم المستفَزّة، أردنا أن نؤكد أننا هنا قبلهم. قبل أن ندرك لاحقًا أن الأسبقية لا تعني شيئًا.
ثم تغيرت طريقة الجارات بوضع الإيشارب على رؤوسهنّ. كانت في السابق إيشاربات جميلة، ملونة، ولم يكن وضعها يخفي شكلهنَّ، ولم يكن يمنعهن من السلام باليد على جيرانهن، وأولاد جيرانهن. صارت سوداء، مع دبوس وبلا أي ألفة. صارت المسافات بيننا أبعد، وحضورهم صار أثقل. وصرنا كي نستعيد ولو جزءًا من علاقتنا القديمة بهم، ننظر إلى الصور التي جمعتنا معًا يومًا ما، فنبتسم لذكرانا معهم.
تعرّفنا إلى «الكيتش» باكرًا قبل أن نسمع بالمصطلح، من خلال مشاهد للجنّة الموعودة رُسِمت على كل جدار وقرب جملة «ممنوع لصق الإعلانات تحت طائلة المسؤولية»، مشاهد لا تخلو من رسم سيف تتساقط منه بضعة نقاط دم وورود قرب رسم لرجال «شهداء» أو مشروع «شهداء».
أردنا أن نكون السكين الذي يمزِّق تلك الرسمات ولكننا لم نفعل. واضح أننا لم نفعل، كان الأسهل أن نستخدمها على أجسادنا.
استبدل شبان الحي أغاني هاني شاكر وعمرو دياب التي كانت تصدح من راديوهات سياراتهم، بندبيات وأناشيد. أما حفلات السطح والبارتيهات التي كنا نذهب إليها خفية بحجة أننا «نأكل بوظة عند بشير»، فلم تدم طويلًا واختفت.
نعم، في «الضاحية»، وفي حارة حريك تحديداً، تعلّمنا الرقص.
لم نعرف حينها وفي ذاك العمر أي شيء عن «الحزب» إلا أنه غيّر ألوان ما ظننّاه مدينتنا، واقتحم ملاعب مدارسنا، وهدّد مدراءنا، وأجبرنا على الاستيقاظ مرعوبين، وحوّل جيراننا إلى جثث.
تعرّفنا إلى شبّانه وهم مقتنعون أنهم الغالبون. لكن أخذنا وقتاً لكي نفهم أننا نحن المغلوبون.