منذ العام 1998، يتناوب على الرئاسة في لبنان قادةُ جيشٍ يُحتَفى بهم كونهم من خارج «الطبقة السياسيّة الفاسدة». ولطالما وجد أولئك الرؤساء جيشاً من الخبراء والناشطين الذين يرون في وصول قادة الجيش فرصةً لتحقيق أمانيهم وأفكارهم التي يعجزون عن تحقيقها بالعمل السياسيّ المباشر، ما يجعلهم يبشّرون بالخلاص على شكل التحالف الأمين بين أصحاب الاختصاص والقائد الذي يخلع بين ليلةٍ وضحاها بزّته العسكريّة ليرتدي وشاحاً وربطة عنق. حتّى ميشال عون الذي انخرط بالعمل السياسيّ قبل وصوله إلى الرئاسة، روّج له أنصاره كرئيس من خارج «الطبقة السياسيّة»، ولم يتوانوا عن تشبيهه، ببهجةِ المغفّلين، بدونالد ترامب الذي اخترق الحزب الجمهوريّ قبل وصوله إلى البيت الأبيض.
وإذا كانت كلّ هذه التجارب قد انتهت إلى فشل ذريع، فإنّ ذلك لم يمنع انتهاك الدستور مرّةً تلو أخرى لإعادة الكرّة، ذلك أنّ كلّ قائد جديد لا ينسب نفسه لتجربة مَن سبقه، بل يقدّم نفسه كامتداد عابر للزمن للتجربة الشهابيّة.
لا يعني ذلك أنّ كلّ الرؤساء المتعاقبين منذ العام 1998 حملوا التجربة نفسها. لكنّ التهليل للقائد الجديد يُستحسَن أن يترافق مع حذر شديد، إذ لا تخفى أوجُه الشبه بين لحظة وصول عون ولحظة وصول قائد آخر هو إميل لحّود، من دون أن تلغي أوجه الشبه هذه اختلافاتٍ كثيرة، ومن دون أن يعني ذلك أنّ العهد الحاليّ سينتهي حتماً إلى البؤس الذي انتهى إليه عهد لحود.
فلنبدأ بأوجُه الشبه:
أوّلاً، الكفّ النظيفة
لم يُعرَف عن الرجلَيْن تورّطهما بقضايا فساد خلال تولّيهما قيادة الجيش. ومثلما يُروَّج اليوم لهذه الصفة الأساسيّة لجوزاف عون، سادت نهايةَ التسعينات خبريّةٌ وحيدة أُريد لها أن تختزل صفات إميل لحّود، وهي أنّه أعاد إلى خزينة الدولة أموالاً فاضت عن الموازنة المرصودة للجيش.
ثانياً، خطاب القسم
بالرغم من اختلاف مضمون الخطابَيْن، حظيَ كلاهما بحفاوةٍ مبالغ بها لمجرّد احتوائهما على عبارات تندرج ضمن «بناء الدولة». المشكلة، في كلتا الحالتين، هي في اعتبار بنود الخطاب برنامجاً سياسيّاً من دون وجود أرضيّة سياسيّة لتطبيقها.
ثالثاً، الدعم الخارجيّ
رفض الرئيس جوزاف عون، قبل انتخابه، القيام بأيّ زيارات لنيل رضا القوى السياسيّة، مكتفياً بالدعم الخارجيّ لانتخابه. كذلك جاء إميل لحود بدعمٍ خارجيّ أزال كلّ العوائق أمام وصوله. وإذا كانت طبيعة دول هذا «الخارج» مختلفة، فإنّ كلا الرئيسَيْن روّجا أنّ ثقة الخارج بهما ستتيح لهما حريّة العمل من دون إملاءات، لتحقيق برنامجهما المنشود.
رابعاً، كسر الهيمنة
حمل وصول إميل لحود وعد إنهاء الهيمنة الحريريّة، خصوصاً بعدما وصلت وعود الحريري الربيعيّة إلى حائط مسدود آنذاك. كذلك يحمل وصول جوزاف عون وعد احتكار الدولة للسلاح، في لحظة انكسار شوكة حزب الله.
خامساً، الخبير الآدميّ المثقّف
رغم أنّه من المبكر الحديث عن حكومة لم تُشكَّل بعد، لا يسع المرء إلا أن يلاحظ الشبه بين الدور والأمل الذي حمله وصول المثقّف المعارض جورج قرم إلى وزارة المال آنذاك، بما يمثّله من نقيض للحريريّة، ووصول القاضي نوّاف سلام إلى رئاسة الحكومة، بما يمثّله من انقلاب كامل على صورة رؤساء الحكومات كما عرفناهم.
يمكن، لهواة النوع، إضافة صورة نجل الرئيس كنموذج للشباب الرياضيّ، من بطل السباحة إميل إميل لحود إلى كابتن كرة السلّة خليل جوزاف عون. فالعقل السليم بالجسم السليم.
رغم أوجه الشبه هذه، ثمّة اختلافات سياسيّة كبرى بين لحظة وصول إميل لحود ولحظة وصول جوزاف عون، لعلّ أبرزها:
أوّلاً، أحزابٌ مُنهَكة
بعكس اللحظة اللحوديّة التي كان النظام السوري يدير فيها تقسيم العمل بين الحريري القوي وحزب الله المقاوم، يأتي العهد الحالي في لحظةٍ تعاني فيها معظم القوى السياسيّة من الإنهاك، من حزب الله المكسور إلى التيار الوطني الحر المفكّك إلى تيار المستقبل الباحث عن زعيمه المُنسحِب.
ثانياً، بلدٌ مدمَّر
إذا كان إميل لحود قد وصل في لحظة تعثّر مشروع الإعمار، فإنّ جوزف عون يأتي رئيساً لبلدٍ مدمَّر، سواء بسبب العدوان الإسرائيلي أو بسبب الانهيار الاقتصاديّ.
ثالثاً، مجلس نوّاب متنوّع
لا تتحكّم بالمجلس النيابيّ الحاليّ الكُتل الكبرى وحدها. فكما أظهرت استشارات تسمية رئيس الحكومة، تمكّن النوّاب المستقلّون (ومنهم من جاء بفضل ثورة تشرين) والكتل الصغرى من جعل اللعبة مفتوحةً على المفاجآت.
رابعاً، الرغبة بالإقصاء
ترافقت بداية العهد اللحّوديّ مع إصرار على استخدام قوّة الدفع الخارجيّة من أجل ممارسة الإقصاء. بدأ ذلك مبكراً مع استشارات تسمية رئيس الحكومة حين ابتُكِرت بدعةٌ دستوريّة رفض معها بعض النوّاب تسمية رئيس حكومة موكلين هذا الأمر لرئيس الجمهوريّة نفسه كي يسمّي مَن يشاء، ما مهّد لإخراج الرئيس رفيق الحريري من الحُكم آنذاك. يناقض هذا سلوك الرئيس جوزاف عون الذي شدّد أكثر من مرّة على ضرورة عدم إقصاء أحد.
خامساً، توازنات الطوائف
شكّل وصول إميل لحود بداية ما سُمِّي بـ«تحالف الأقلّيات» الذي عاد ميشال عون وكرّسه في «وثيقة تفاهم» مع حزب الله وتحالف مع نظام الأسد. أمّا جوزاف عون، فيبدأ عهده بسقوط نظام الأسد وانكسار حزب الله، وسيتحدّد مساره إلى حدّ كبير بمن سيملأ فراغ الزعامة السنّية في الانتخابات المقبلة.
لا تختزل هذه اللائحة أوجه الاختلاف، لكنّها تكفي للقول إنّ عهد جوزاف عون أمام ديناميّات سياسيّة مختلفة يمكن استغلالها لخلق واقع سياسيّ جديد على الأرض. لكنّ المهمّة هنا ليست على عاتق جوزاف عون، بل على عاتق مَن آمن بـ«ثورة 17 تشرين»، شرط ألّا يعتبر أنّ وصول عون وسلام هو تتويج للثورة، بل حدث سياسيّ يمكن استغلاله في الاحتجاجات الشعبيّة والانتخابات النيابيّة المقبلة.
بخلاف ما يعتقده كثيرون، لم ينتهِ عهد إميل لحود باغتيال رفيق الحريري. انتهى العهد في بدايات بداياته حين أعلن رئيس الحكومة آنذاك، سليم الحص، أنّ هدف حكومته ليس الانقلاب على السياسات الاقتصاديّة الحريريّة، بل مكافحة الهدر والفساد. كان هذا الإعلان كفيلاً بإنهاء الخطاب الذي قام العهد على أساسه، ليتحوّل إلى مجرّد حُكم للأجهزة الأمنيّة، تكلّل بعمليات اغتيال.
وإذا كانت القدرة على رسم سياسات اقتصادية واجتماعية مناقضة للمشروع الحريري هي ما شكّل الاختبار الحقيقي لعهد إميل لحود، فإنّ الاختبار لعهد جوزاف عون تتصدّره نقطة واحدة وحيدة، هي إتمام التحقيقات في انفجار مرفأ بيروت، ومحاكمة المتّهَمين. والسبيل إلى ذلك هو إطلاق يد المحقّق العدلي القاضي طارق بيطار، واحترام صلاحياته المطلقة في هذا التحقيق. هذا هو الاختبار الأساسيّ لأنّه يتعلّق بالأمر الأهمّ الذي افتقده اللبنانيّون طويلاً: العدالة. تلك العدالة التي من دونها لا معنى لبناء الدولة، ولا لاستقلالية القضاء، ولا لمحاربة الفساد، ولا لاحترام الحريات، ولا حتى لاحتكار السلاح.