نظرة الثورة السورية
رنا عيسى

قصّة الصياد الفقير

17 آذار 2021

لم أفهم يوماً ما يميزنا نحن اللبنانيين عن جيراننا السوريين المقيمين بُعد مشوار بالسيارة عنا.

لم تقنعني الحدود الدولية يوماً بأنها تقع بين بلدين مختلفين. لا الناس مختلفون ولا لهجتهم غريبة على الأذن. لكنّ الغريب كان تصرفات أهلي على الحدود في كل مرة كنا نزور فيها الشام أثناء الحرب اللبنانية، وأحاديثهم عن سوريا.

أذكر أنّنا كنا ذات مرّة نوضّب راديو كهدية لأحد أصدقاء أبي. وكان صديق عمّي في زيارة، فقال لأبي أن الراديو سيصادَر على الحدود السورية لأن المخابرات هناك تستعمل موجة الـFM للتواصل فيما بينها. لا أعلم إن كانت القصة حقيقية، ولكنّ قصصاً كهذه كانت كفيلة بإفهامي بأن ما يميزنا عن السوريين كلبنانيين هو بلادة البطش المتواصل كأداة حكم في سوريا.


سوريا كانت ولا تزال مصدراً مهمّاً في تشكيل وعيي السياسي.

أذكر عندما كنا في زيارة إلى حلب هرباً من الاجتياح الإسرائيلي، وكنت في الخامسة من عمري. اعتقِل صديق لأبي بينما كنا في بيته لأنه كان يسارياً. سيخرج رضا حداد من السجن في منتصف التسعينات وكان السرطان قد أكل دمه. أتوا به إلى لبنان ليتعالج في الجامعة الأميركية في بيروت، ومات هناك بعد أسابيع. أبي قال لي يوم اعتقل رضا بأنهم يسجنونه لأنه كان لا يخاف قول الحقيقة.


أذكر حلماً كان يراودني لسنوات بعد اختطاف رضا.

كان يأتيني في الحلم جوكر من ورق اللعب له ضحكة رهيبة، معلقاً في فراغ أسود فوق رأسي. وكان هذا الجوكر يقوم باختطاف مجموع كلماتي. كنت أخسر الكلمات في كل مرة أغمض عيني، حتى رمشة سريعة كانت تكلِّفني بضع كلمات. وفي كل مرة كنت أحاول أن لا أنام وأغرق في الصمت. وفي كل مرة، كنت أحاول تثبيت عيدان ثقاب في عيني، وكانت العيدان تنكسر فأخسر المزيد من الكلمات وأغرق أكثر فأكثر في ظلمة متعاظمة.

بعد خروجي من لبنان إبان انفجار المرفأ، عاد الحلم بحلّة جديدة:

الجوكر كان ميشال عون والكلمات هذه المرة استبدلتها بالألوان. هذا الجوكر الجديد كان يريد سرقة الألوان، وكان عليّ أن أعمل مع لينا وداليا لتحرير الألوان من قبضته. كان عليّ أن أنقذ اللون الأصفر، وهما جهدتا في تخليص الأزرق والأخضر.

الحلم نفسه، وان كانت بنيته الآن قد اختلفت.

في الحلم الجديد لست وحيدة أمام الجوكر، ومعي في الحلم صديقات أثق بهنّ. ونحن في هذا الحلم الجديد لسنا مستسلمات مرعوبات، بل ناشطات واثقات من قدرتنا. أمّا في كل ذلك الزمن الذي أرعبني فيه الجوكر الكاتم للصوت، فكان يتملكني الخوف والشعور بالوحدة والهزيمة في معركة لم أختَرْها معه. لم أكن أعلم حينها أنني لست الوحيدة التي يأتيها الجوكر ليسرق كلامها.


تغيّرت الأحوال بين الحلم الأوّل والأخير.

كان قد طرأ التغيير المفصلي على نظرتي السياسية إبان الثورة في سوريا. كنت أعلم كما كان السوريون يعلمون بأن حمام الدم والدمار الشامل سيضرب سوريا، لا محالة. مع هذا، نزل الناس إلى الشارع. قتلوهم واعتقلوهم وبقوا سنة كاملة ينزلون ويكابرون على الخوف ويطالبون برحيل هذا النظام. الأعداد الهائلة في الشارع وتعدّد الأطياف السياسية كان مثيراً… أين كانوا جميعهم خلال أربعين عاماً؟ صاروا فجأة لا يخافون الوحوش والغولة.

كانت ثورتنا في لبنان أقل رعباً من ثورتكم.

أخذنا قرار المشاركة بالتظاهرات حتى بعدما شهدنا ما حدث لكم، وكيف تدخل حزب الله لإنقاذ النظام وسرقة حياتكم ومستقبلكم. عندما نزلت إلى الشارع في بيروت كنت ممتلئة بالقوة الشعبية المتراكمة في عشرات المدن والأرياف العربية على مدى تسع سنوات. أفردت كتفيّ على عرضهما ومشيت مرفوعة الرأس. كل الذل الذي تتعرضون له، بكمّه الهائل هذا، لن يمحو قوتكم ولن ينتصر على كرامتكم. هذا ما يقوله العرب في شوارعهم من الجزائر والبحرين إلى العراق. حتى بعد دمار ليبيا واليمن وسوريا والعراق والآن لبنان، حتى بعد كل هذا الدمار مع كل فروقاته المحلية، اتفقت الشوارع العربية على أن هذه الأنظمة كلها بحاجة إلى تغيير… كلها يعني كلها!


في ليلة رأس السنة، بعدما كنا قد تيقّنا أن الثورة اللبنانية قد انتهت، ذهبنا مع كل الأصحاب في المدينة إلى الملذات كمن يحتفل بآخر يوم في حياته. في منتصف صباح السنة الجديدة، بعد ليلة لم ننم فيها، جلست مع صديقي، وتكلمنا عن وضعنا الصعب. كنتم في رأسي في تلك اللحظة، أيها السوريون، عندما كنت أتلو لصديقي قصة عن الصياد الفقير والمارد الكبير. هكذا بدوتم لي يا أصدقائي السوريين في ثورتكم، كمن يأتي من الحكايات التي لا تستسلم للطغيان حتى ولو بعد آلاف الليالي وليلة. أذكر كيف انفجرتم كلاماً وتعبيراً وكم شعرت نفسي مصابة بقوتكم. انفلت لساني وبدأت أكتب وأترجم لأنّ ثورتكم حصلت، فأحسست أخيراً بأن هناك في هذا العالم من أرغب بالتواصل معه- بالعربية- بعد هجرة خمسة عشر عاماً عن الكتابة بهذه اللغة.

اليوم يتكثّف الذل وتتراكم الخسارات الفادحة. والصياد الفقير يفتش عن حيلة تعيد المارد الحقود إلى القمقم. في القصة، يساعد الصياد سمكة، قد خلّصها من صنارته وأرجعها إلى الماء، في محنته مع المارد. سمكة صغيرة لم يطاوع الصيادَ قلبُه الفتكَ بها ليأكل هو. الصياد كان يعلم أن كمية العنف ليست كفيلة بانتفائه من الحياة.

فالبقاء لم يكن أبداً للأقوى، وإنما للصياد الذي يفتح قلبه للسمك كما علمتنا الأساطير.

آخر الأخبار

مواد إضافيّة
نتنياهو يهدّد المحكمة الجنائية وكل من يتعاون معها
حدث اليوم - الخميس 21 تشرين الثاني 2024
21-11-2024
أخبار
حدث اليوم - الخميس 21 تشرين الثاني 2024
25 شهيداً في عدوان يوم الأربعاء 20 تشرين الثاني 2024
3,583 شهيداً، 15,244 مصاباً
مختارات من الصحافة الإسرائيلية 21/11/2024
هكذا أصبح نتنياهو وغالانت مطلوبَيْن للعدالة