ثلاثة مشاهد تؤكّد أنّ الخارج يتعامل مع لبنان بمنطق تمرير الوقت دون تقديم الكثير من الجهد للتعامل مع المسائل الأساسيّة التي تعنى بمعيشة المقيمين في لبنان ونمط حياتهم.
المشهد الأوّل
مؤتمر دعم الجيش
بمبادرة من فرنسا، ودعم من إيطاليا ومكتب الممثل الخاص للأمين العام للأمم المتحدة في لبنان، تمّ عقد المؤتمر الدولي الإفتراضي لدعم الجيش، بحضور حشد من قادة جيوش ووزراء دفاع طيف واسع من الدول العربيّة والأجنبيّة. تركّزت عناوين المؤتمر على تأمين حاجات الجيش اللوجستيّة الداهمة، كي يستمر في أداء مهامه، في ظل حالة الانهيار التي تمرّ بها كافة مؤسسات الدولة.
مثّل اهتمام المجتمع الدولي مؤشّرًا لافتًا لاقتناعهم بضرورة الحفاظ على المؤسسة العسكريّة، التي تمثّل «المؤسسة الوحيدة والأخيرة التي لا تزال متماسكة»، وفقاً لكلمة قائد الجيش في المؤتمر.
لكنّ هذا التطوّر يطرح أسئلة مقلقة:
- ما طبيعة المشهد السياسي الذي سيسود في المرحلة المقبلة، مع انهيار جميع أدوار الدولة الرعائيّة والخدماتيّة، واقتصار حضورها المدعوم من الخارج بالمؤسسة العسكريّة؟
- هل نتّجه إلى دولة تنحصر علاقتها بمجتمعها بالسطوة الأمنيّة، في حين تنهار فيها مؤسسات التعليم العام والضمان الاجتماعي والمستشفيات الحكوميّة وغيرها من أبسط أشكال شبكات الحماية الاجتماعيّة؟
بات من الواضح أن القيّمين على الوضع الداخلي لم يحملوا أولويّة التعامل مع أدوار الدولة الأخرى، كما صار من المعروف أن الخارج لم يعد يعطي أي أولويّة لأي شكل من أشكال الدعم لمؤسسات الدولة. لكن أن تكون مؤسسة الجيش هي الكيان الوحيد الذي يحظى بالدعم الخارجي، فذلك يفتح باب إشكاليّات كثيرة حول شكل الدولة التي نتجه إليها في المستقبل.
المشهد الثاني
مجلس النقد: التسليم بالانهيار
بدأ الكلام جديّاً في الدوائر الدبلوماسيّة الفرنسيّة، ومع الشركاء الدوليين، عن «مجلس النقد» كأحد الخيارات المطروحة للبنان. تعمد هذه الصيغة إلى تثبيت سعر الصرف بشكل مبسّط، عبر ربط قيمة العملة بمخزون معيّن من الاحتياطات، دون أن يتمّ معالجة أيٍّ من وجوه الانهيار الأخرى، كفجوة الخسائر في المصارف أو العجز في الميزانيّة العامة أو مسألة الدين العام.
يمكن القول إنّ اعتماد هذا الخيار، وإن عالج الجانب المتعلّق بسعر الصرف، يعني شلّ قدرة الدولة من ناحية التعامل مع الأزمات الأخرى، من خلال تجريدها من سلاح السياسة النقديّة.
من الناحية العمليّة، لا يعني بدء التداول بهذا الطرح سوى:
- تسليم الخارج بصعوبة التعامل مع الأزمة اللبنانيّة بكل جوانبها، لا بل تسليمه بعدم إمكانيّة الخروج من نفق الانهيار خلال الفترة المقبلة.
- مباشرة الدول الأجنبيّة البحث في الصيغ الكفيلة بتمرير الوقت بالحد الأدنى المطلوب لمنع انفلات الأمور على مصراعيها، وخصوصاً من ناحية وسائل الدفع وقيمة العملة المحليّة.
لن يعني هذا الطرح بالنسبة إلى المقيمين في لبنان سوى الاستسلام لحالة تعثّر نظامهم المالي، وتجاوز مسألة حقوق المودعين، بالإضافة إلى التسليم بعجز الدولة عن أداء جميع مهامها، وخصوصاً تلك المتّصلة بشبكات الحماية.
المشهد الثالث
زيارة بوريل
لم تخرج زيارة بوريل، مسؤول السياسة الخارجيّة في الاتحاد الأوروبي، عن سياق هذا المشهد. فلم يقدّم المسؤول الأوروبي الذي انتظرت وسائل الإعلام تداعيات زيارته إلى لبنان، أي جديد يُذكر على مستوى مبارات الخارج المتعلّقة بالشأن اللبناني، باستثناء حديثه عن ضرورة العودة إلى المفاوضات مع صندوق النقد وإجراء الإصلاحات، واستغرابه التأخير في تشكيل الحكومة.
أغلب الظن، لم يكن هدف الزيارة منذ الأساس سوى الاستطلاع عن قرب، وتكوين انطباعات عن تفاصيل المشهد السياسي وأسباب التعقيدات التي تحول دون تشكيل الحكومة. لكنّ مجيء بوريل خالي الوفاض يشكّل بحدّ ذاته دلالةً على تسليم المجتمع الدولي بحالة لبنان الراهنة، بوصفه أرضاً محروقةً ومتروكةً لقدرها.
تُظهر كافة تلك المبادرات المحدودة أنّها مجرّد معالجات متفرّقة، إمّا لتمرير الوقت أو للإبقاء على الحد الأدنى من الانتظام، الذي لن يحمي بالضرورة مصالح المقيمين من أصحاب الدخل المحدود.