في أروقة قصر العدل، لا جديد حول التحقيق في جريمة انفجار مرفأ بيروت.
على السلالم، في المكاتب والقاعات، الكلّ يردّد عبارة واحدة: إلى ما بعد الانتخابات النيابية. ما الذي قد يختلف بعد هذه الانتخابات؟ توازنات الكتل السياسية في المجلس؟ حجم التكتلات الراغبة في تعطيل التحقيق؟ تمرير تحقيق برلماني صوري للمتّهمين السياسيين في مجزرة 4 آب؟
ربما كلّ هذا، أو قد يكون أيضاً عادةً من عادات اللبنانيين تأجيل استحقاقات وربطها بأحداث ومواعيد داخلية وخارجية: كعبثية ربط تشكيل الحكومات اللبنانية بانتخابات رئاسية أميركية… كبلاهة ارتباط انتخابات رئاسية لبنانية بمحادثات نووية… أو حتى هزل إعلان عناوين إصلاحية والمضيّ فيها بحوار سعودي إيراني.
التعطيل السياسي المباشر
105 أيام من التعطيل المستمرّ والمتواصل للتحقيق في جريمة 4 آب.
منذ 23 كانون الأول 2021 إلى اليوم، وحتى «إلى ما بعد الانتخابات النيابية»، سيستمرّ التعطيل العمدي للتحقيق. حلّ أزمة التوقف القسري للتحقيق واضح في مساره الإداري والقضائي. وعلى عكس المرّات السابقة، التعطيل فعل سياسي مباشر يتمثّل بعدم إقرار التعيينات القضائية من خلال فرملة المرسوم على يد وزير المال وعدم إحالته إلى رئاستي الحكومة والجمهورية. لم تعد السلطة السياسية المتمثّلة بكل الطاقم الحاكم، من رئاسات وكتل وزارية وأخرى نيابية ومرشدين عامّين، يتلطّون بدعاوى قضائية للعرقلة. والعرقلة المسيّسة الفجّة بهذا الشكل مطلوبة اليوم لحماية المسؤولين السياسيين، في تعبير عن وقاحة سياسية آخذة بالتصاعد.
الوقاحة المفضوحة
منذ تسعينيات القرن الماضي، اضطرّت السلطة المتمثّلة بالطوائف والميليشيات وأمراء الحرب الأهلية، إلى فضح نفسها والكشف عن آفاتها. الطائفية باتت مكرّسة في الخطابات السياسية بعدما كانت أبغض المحرّمات في مواقف لبنان ما بعد اتفاق الطائف. المحاصصة باتت علنية ومكرّسة أيضاً بعدما كثرت عبارات من نوع «الرجل المناسب في المكان المناسب» و«دولة القانون والمؤسسات» و«تكافؤ الفرص». التحكّم بالقضاء كان واضحاً، لكن ليس إلى هذه الدرجة من الإسفاف. حتى السرقات باتت علنية ومفضوحة لأموال المودعين في المصارف ولمستثمري سندات الخزينة، ناهيك بمجالس ما بعد الحرب الأهلية وسائر مشاريع التعهّدات وبناء السدود وتعبيد الطرقات وغيرها. وكذلك البلطجة المعمّمة في الشوارع.
جنرالات السياسة والأمن
في ملف انفجار مرفأ بيروت، بات اللعب السياسي مفضوحاً.
أصبح التدخّل السياسي مباشراً وعلنياً وتغيب عنه الشعارات التي زيّن بها المعرقلون عملهم، ومنها حماية التحقيق من التسييس والاستنسابية. تريد السلطة «الحقيقة الحقيقية» كما تراها، لتفرضها على الضحايا المباشرين وغير المباشرين وعموم اللبنانيين المتمسّكين بعنواني المعادلة والمحاسبة. تريدها حقيقة خالية من أي اتهامات ومسؤوليات تطال جنرالاتها السياسيين والأمنيين. تريدها حقيقةً على شاكلة «ما خلّونا» و«لو كنت أعلم» وسائر المقولات الخالدة الأخرى التي طبعت حياة اللبنانيين. حتى بعد 17 تشرين التي يفترض أنها حطّمت أصناماً وتماثيل ورموزاً، زادت هذه السلطة من استخفافها باللبنانيين ومن وقاحتها.
صمود بيطار
طوال ثلاثة أشهر و15 يوماً من التعطيل المستمرّ، ساد سؤال دائم حول المحقق العدلي القاضي طارق بيطار. ماذا يفعل؟ كيف يمضي ساعاته في منزله بعيداً عن قصر العدل الممنوع أن يطّلع فيه على قصاصة ورق تتعلّق بالتحقيقات؟ هل وضع تصوّراً لاستكمال المعركة مع التعطيل في جولاته المقبلة؟ كيف يصمد مع ضغط نفسي يصاحبه ويصاحب عائلته التي تغيّرت عاداتها منذ شباط 2021؟ هل يفكّر في مستقبله المهني بعد هذه الحرب القضائية والسياسية والإعلامية؟ لا نعرف كيف، لكنّ بيطار صامد في هذه الحرب، وخلفه أهالٍ مفجوعون إلى اليوم بما حلّ بهم. يضيئون شمعة لأبنائهم وبناتهم، وأخرى للتحقيق والعدالة والساعي خلفها.
الحرب الأخيرة
قد يكون التحقيق في جريمة انفجار مرفأ بيروت آخر المعارك التي يمكن خوضها في بلد محتلّ سياسياً وأمنياً وقضائياً واقتصادياً، داخلياً من خلال ميليشيات وأحزاب وطوائف، وخارجياً من خلال إمبراطوريات مصالح ونفوذ. ويختلف تحقيق 4 آب عن سائر الملفات القضائية الأخرى التي يمكن للبنانيين متابعتها حول مصرف أو حاكم المصرف المركزي أو مع شركة نقل أموال أو حتى في مقتلة الطيونة. في كل تلك الملفات طوائف وصراعات مصالح إلى جانب حقيقة أنّ اللبنانيين منهوبون. أمّا في ملف المرفأ، فسُلطة قتلت شعباً ودمّرت مدينة وهجّرت أهلها، وتمنع العدالة عنهم. معركة تحقيق 4 آب هي آخر المعارك النقية التي تعني الخسارة فيها أنّ القاتل ارتكب جريمته ومثّل بجثث ضحاياه وتفرّغ للتنكيل بأهلهم. الخسارة تعني انتشار منطق الانهيار اللبناني الشامل في الدولة والمؤسسات والقضاء والقانون، وفي النفوس.
أمّا ضحايا الجريمة، فلا تزال أرواح بعضهم تحوم حولنا لتذكّرنا بأنّ المجزرة لم تنتهِ بعد.