يتميّز الاستغلال الرأسمالي عن سواه بقلّة شفافيّته. فغالباً ما يجد عموم الناس أنفسهم وقد تدهور مستواهم المعيشي أو عجزوا عن تأمين عمل من دون أن يتمكّنوا من الإشارة بأصابعهم إلى السبب. تارةً يوضَع اللوم على معدَّلاتٍ كارتفاع نسبة البطالة، وتارةً أخرى على تقلّبات السوق. لا صورةَ واضحة وواحدة للسيّد الذي يملك العبيد، ولا للإقطاعيّ الذي يقود فلّاحيه بالكرباج، بل هناك رأس مال غامض الحركة تُنتِج مساراتُه أغنياء هنا وفقراء هناك، ترمي ضحيّةً من هنا وقد تخترع أجهزةً تلمّ ضحيّةً من هناك.
كان يمكن للانهيار الاقتصادي اللبناني أن يمرّ بالطريقة نفسها. ألا نفهمه إلا كـ«إفلاس» نتيجة الإسراف في الإنفاق، ونتيجة الحروب والثورات المحيطة بنا والتي أنتجت عجزاً في ميزاننا التجاري أفضى إلى فقدان العملة الصعبة، ناهيك باستهداف العهد بمؤامرة واستهداف حزب الله بالعقوبات الأميركيّة. حاول الجميع إقناعنا بذلك. وتنافس كثيرون على تفسير «الأزمة» برسومٍ بيانيّةٍ تُخفي أكثر ممّا تُظهر.
ما فعله الصحافيّ محمّد زبيب وقلّةٌ من الكتّاب والإعلاميّين والاقتصاديّين هو بالضبط نزع الأقنعة كي نرى. نزع كمٍّ هائل من الستائر والأغطية عن أرقام وسياسات وعمليّات مالية وأسماء شركات وهميّة وغير وهميّة، كي نعرف أنّ ما نعيشه ليس «أزمة». بات النظام شفّافاً، والمسؤولون عن النهب المنظَّم مكشوفون، وحجم هذا النهب معروفاً.
لقد عرفنا مروان خير الدين قبل أن يكشف عن وجهه. قبل أن يرسل مرافقيه الثلاثة ليعتدوا على الصحافيّ محمد زبيب. فقبل البلطجة، وتحوّله إلى رئيس عصابة، عرفناه كتجسيدٍ للـ«كلّن يعني كلّن». كوزير وصاحب مصرف. عرفنا بـ37 مليون دولار تقاضاها من بنك المدينة. عرفنا بـ300 مليار ليرة تقاضاها كـ«تسهيلاتٍ استثنائيّة» من مصرف لبنان. عرفنا أيضاً ما عرفناه عن مصارف أخرى من أرباحٍ سنويّة طائلة يحصدونها بعدما حوّل الدَّيْن العام المواطنين إلى موظّفين رغماً عنهم لدى المصارف.
لقد باتت اللعبة مكشوفةً. لن تحجبها أوسمة رياض سلامة ولا أشجار عيد الميلاد التي أضاءها سليم صفير. لن تحجبها أيضاً المحاولات الأخيرة للتلطّي وراء صناديق دولية يبيعونها اليوروبوند لتفاوض باسمهم، ولا وراء صندوق النقد الدولي الذي يُستدعى لتصبح «الخطوات الموجعة» جزءاً من «وصفةٍ» عالميّة. فما كُشف قد كُشف. وتماماً كما نعرف أولئك المصرفيّين، نعرف الزعماء الذين احتكروا إصدار القرارات وتبنّي السياسات وقبض العمولات. نعرفهم كلّن. كلّن يعني كلّن.
أتخيَّل أحياناً عشاءً عائلياً في منزل مروان خير الدين. على رأس الطاولة، يجلس عميد العائلة وخال مروان، النائب أنور الخليل المنتمي إلى كتلة نبيه برّي. إلى يمينه، يجلس صهر مروان، النائب طلال أرسلان، وريث الزعامة الإقطاعية الأرسلانية والمنتمي إلى تكتّل لبنان القوي الذي يرأسه جبران باسيل. وقد يكون ضيف الشرف في هذا العشاء كارلوس غصن الآتي للتعرّف إلى الوكلاء اللبنانيين لشركة نيسان، آل رسامني الذين سبق أن صاهروا مروان.
لن يكون عشاءٌ كهذا عائلياً. سيكون كلّ واحد منّا حاضراً على الطاولة، كطبقٍ يتمّ التهامُه، كجِلد طريدةٍ سلخَها المصرفيّ بمِشرط رئيس العصابة.